صناعة القادة والمواطنين

24/05/2020 06:45PM

كتب الأستاذ يوسف الخوري: جاء في مقال للبروفسور غسّان سكاف، بتاريخ 23 أيار 2020، تحت عنوان (لبنان والجامعة الأميركية) ما حرفيّته " خرّجت جامعتكم عدداً كبيراً من الشخصيات القيادية في الطب والهندسة والقانون والعلوم والفن والادب وعدداً كبيراً من القادة السياسيين على مدى عقود." ثمّ يذكر أنّ أزمة لبنان "هي في الحقيقة أزمة وطن ممنوع أن يكون سيداً حراً مستقلاً ". 

وهذا يدعوني إلى التالي: لقد استطاعت الجامعة الأميركية وغيرُها من الجامعات أن تخرّج مجموعة من الراقين في لبنان والعالم العربيّ. غير أنها خرّجت الكثير من الفاسدين الذين توالوا على حكم لبنان  والعالم العربيّ.

لبنان جزء من الأمة العربيّة، وأنا أعتزّ بالعروبة. ولأنه كذلك فهو لا يستطيع العيش خارج رحمها. وهو أيضا لا يستطيع أن ينأى بنفسه عن أمراضها.

يوم كان لبنان نقطة التقاء الأمّة العربية، والجامع لدولها، والساعي  إلى إيجاد الحلول لمشاكلها، والناقل إليها منجزات الحضارة الغربية... وكان العربُ راضينَ له بهذا الدور، استطاع لبنان أن يوحّد العرب. 

ويوم سعى فريقٌ من العرب إلى امتلاك لبنان وإدخاله في محوره اختلت الأمور في لبنان. وهذا ما حصل في لبنان سنة 1958، يوم حاول الرئيس عبد الناصر قيادة العالم العربيّ. وحصل في العام 1968 يوم حاول أبو عمّار وبعض الدول العربيّة (محور المقاومة) السيطرة على لبنان لربطه بمحورهم. وهو الآن في الوضع نفسه مع سعي بعض العرب والفرس إلى تأجيج الصراع السنّيّ الشيعيّ، والتمحور عالميًّا مع فريق ضدّ الآخر. والمؤلم أنّه في كلّ من هذه المرّات كان هناك فريق من اللبنانيين متحمّسًا لأحد المحاور، ومنخرطًا في الصراعات العربيّة.

والحقيقة هي أنّ جوهر لبنان كان ينتصر دائمًا على عوارضه، بعد كلّ محنة. ويعود أبناؤه جميعهم إلى "رسالتهم" في محيطهم العربيّ. وأنا على يقين من أنّ اللبنانيين الحاليين الذي يحاولون سوق لبنان إلى محورٍ ضدّ آخر سيعودون إلى هذا "اللبنان" الذي يعمل على جمع العربِ لا على تفريقهم.

ومشكلة لبنان والعرب الثانية هي المواطنون ومنهم القادة. فهم لم يفهموا من الديمقراطيّة الغربيّة سعيها إلى تطوير الروح الإنسانية الشاملة في نفوس أبنائها، بل أخذوا بمدأ الديمقراطيّة العدديّة وهو مبدأ قبليّ قديم، حيث كانت القبيلة الكبيرة تسيطر على القبائل الصغيرة. وكلّما لجأ بعض  اللبنانيين أو العرب إلى عددِهم أو قوتّهم عادت إليهم الروح القبليّة ونسوا "جوهرَ" لبنان. وأنا على يقين من أنّ هؤلاء اللبنانيين سيكتشفون مقدار الضرر الذي يُلحقون بأنفسهم أوّلًا وبلبنانَ ثانيًا.

نحن بحاجة إلى بطريرك "حويّك" لبنانيّ آخر، ورئيس وزراء "فارس خوري" سوريّ آخر، يقول الأوّل لا نريدُ لبنان أكثريّة مسيحيّة، ويقول الثاني نحنُ قلّةٌ لا تخافُ المسلمين لأنّنا نتقن عيش الأخوّة معهم.

القادةُ العظام ليسوا من يجيدون الانتصار بالحرب. بل هم الذين يجيدون تجنيب بلدانهم الحرب. القادة العظام هم الذين يستطيعون أن يوحّدوا شعبهم، لا أن يفرضوا عليه وجهة نظرهم. وهناك فارق كبير بين قائدٍ وطنيٍّ وقائد فئة من أبناء الوطن.

حتّى اليوم، لم تستطع مدارسُنا ولا جامعاتُنا أن تبنيَ شعوبًا عربيّة واعية لحقيقة العروبة، ولا قادةً واعين لضرورة توحيد شعوبهم.

ولكنّه سيأتي يومٌ يقتنع فيه السنّة، والشيعة، والعلويّون، والدروز، والموارنة، والروم، والإنجيليّون، والملحدون، والعلمانيّون بأنّ الله، إذا كان موجودًا، لا يفضّل واحدًا من أبنائه على الآخرين. ولا يفضّلُ نبيًّا على آخر. ولا دينًا على آخر. ليس عند الله "تراتبيّة" ولا "بيروقراطيّة" ولا مراتب.. هذه كلّها صفات أجتماعيّة إنسانية أطلقها الناس على الله.

فليترك القادة الصراعاتِ الدينيّةَ. وليوقفوا المتاجرةَ بها. "حقوق الإنسان" حقٌّ لكلّ إنسان. وعندما يؤمّن القادة حقوق جميع الناس هم يؤمّنون حقوق أبناء طوائفهم. وليكفّ رجالُ الدين عن المتاجرة بالله، والتلكّم باسمه: الله يريدُ كذا، ولا يريد كذا... الدينُ أعمقُ من الشعائر الدينيّة. والله لا يمكن أن يكون مع إنسان ضدّ آخر. هذا ينافي طبيعته.

إذا لم نقتنع أن المفاضلة بين إنسانٍ وآخر من حيث القيمة، وبين شعب وآخر، وبين قوميّة وأخرى، وأمّة وأخرى جريمة، فإنّ إنسانيّتنا تكون غير مكتملة.

الميثاق الوطني كما درَسْناه ودرّسناه، وكما أفهمه أنا، هو سعيٌ إلى أن نرفع المواطن اللبنانيّ من التعدّديّة إلى الإنسانيةِ الموحّدة. هو إقرارٌ بأنّ حقوقَ الناس كلّهم مقدّسة.

أنظروا إلى قادتنا اليوم الدينيّين والمدنيّين. إنّهم فئويّون.  وهم في سعيهم لتأمين "حقوق" أتباعهم وطوائفهم يحرمونهم منها، ويجعلونهم في تنافس سلبيّ مع المكوّنات الأخرى للوطن.

نحن بحاجة إلى قادةٍ وطنيّين، لا إلى قادةٍ فئويّين. ونحنُ بحاجةٍ إلى مواطنين يصنعون قادةً تليق بهم وبأوطانهم.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa