28/08/2020 04:19PM
جاء في "الحرة":يرى صلاح تيزاني وهو يستعيد ذكريات طفولته في دولة لبنان الوليدة عند إعلان قيامها منذ ما يقرب من قرن من الزمان، أن القوى الاستعمارية والزعماء الطائفيين وضعوا البلاد على مسار كارثي منذ البداية.
كان تيزاني، المعروف في لبنان باسم أبو سليم، من أوائل مشاهير التلفزيون في لبنان، وذاع صيته في الستينيات من القرن الماضي من خلال برنامج كوميدي أسبوعي قدم نقدا سياسيا واجتماعيا للدولة الوليدة.
والآن في الثانية والتسعين من العمر، يتذكر تيزاني بصفاء ذهن الأزمات التي عصفت بلبنان، من الحروب والاحتلالات والاغتيالات، وأحدثها الانفجار المدمر في الميناء، عائدا بذاكرته إلى الأيام التي رسمت فيها فرنسا حدود البلاد اقتطاعا من الإمبراطورية العثمانية في عام 1920 وصعود الساسة الطائفيين ليصبحوا زعماء البلاد.
وقال تيزاني "الناس ناموا يوما كانوا لنفترض سوريين أو عثمانيين. تاني يوم فاقوا (استيقظوا) لقوا حالن دولة لبنانية. شو هاي الدولة؟ ما بدنا"، ودفعت أحدث محنة في لبنان، وهي انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس، والذي أسفر عن مقتل نحو 180 شخصا وإصابة 6000 وتدمير مساحات شاسعة من المدينة، اللبنانيين إلى إعادة التأمل في تاريخ البلاد المضطرب وعمقت مشاعر القلق على المستقبل.
وبالنسبة للكثيرين، فإن الكارثة هي امتداد للماضي، سببها بشكل أو بآخر النخبة الطائفية ذاتها التي قادت البلاد من أزمة لأخرى منذ نشأتها، بإعطاء الأولوية للفصائل والمصالح الذاتية على حساب الدولة والشعب، كما تأتي وسط تدهور اقتصادي شديد، إذ خرب انهيار مالي غير مسبوق اقتصاد البلاد، مما فاقم الفقر وأطلق موجة جديدة من الهجرة من بلد بات عصره الذهبي في الستينيات ذكرى طواها النسيان.
ذكرى المئوية
ويتزامن الانفجار مع يوم مهم في تاريخ البلاد وهو الأول من سبتمبر الذي تحل فيه الذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان الكبير، التي أعلنتها فرنسا عند تقسيم الدولة العثمانية مع بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ونال إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو قيام دولة لبنان الكبير ترحيب الموارنة أكبر طائفة مسيحية في لبنان كخطوة نحو الاستقلال.
لكن العديد من المسلمين الذين وجدوا أنفسهم معزولين عن سوريا وفلسطين استاءوا من الحدود الجديدة، وفي نشأته بمدينة طرابلس في الشمال رأى تيزاني الانقسامات بأم عينه، فعندما كان طفلا صغيرا، يتذكر أن الشرطة أمرته بالعودة إلى منزله ليتم تسجيله في إحصاء عام 1932 وهو آخر إحصاء أجري في لبنان، ورفض جيرانه المشاركة.
ويحكي تيزاني قائلا "قالوا لهم ما بدنا نكون لبنانيين"، ولا يزال بإمكان تيزاني أن يتلو قسم الولاء التركي للسلطان، كما تعلمه والده في ظل الحكم العثماني، كما يمكنه غناء النشيد الوطني الفرنسي، الذي علمه إياه الفرنسيون والذي يحفظه عن ظهر قلب، لكنه يعترف بأنه لم يحفظ كل كلمات النشيد الوطني اللبناني، لم يكن أحد يتحدث عن حب الوطن.
وأضاف "تقدمت البلاد على أساس أننا أمة موحدة ولكن بلا أسس داخلية. لبنان بُني بشكل سطحي واستمر بشكل سطحي"، ومنذ الأيام الأولى، أضطر الناس إلى الارتماء في أحضان السياسيين من طائفة أو أخرى إذا كانوا بحاجة إلى وظيفة أو لإدخال أطفالهم المدارس أو إذا واجهوا مشاكل مع القانون.
بوادر واعدة
عندما أعلن لبنان استقلاله عام 1943، حاول الفرنسيون إفشال هذه الخطوة بسجن أعضاء حكومته الجديدة، مما فجر انتفاضة أثبتت أنها لحظة نادرة للوحدة الوطنية، وبموجب الميثاق الوطني اللبناني، تم الاتفاق على أن يكون الرئيس مارونيا ورئيس الوزراء مسلما سنيا ورئيس البرلمان مسلما شيعيا.
وحملت سنوات ما بعد الاستقلال بوادر واعدة، فقد حصلت المرأة على حق الاقتراع عام 1952، ويقول حيان حيدر إن والده سليم حيدر، الذي كان وزيرا في ذلك الوقت، يفتخر بحقيقة أن لبنان لم يتخلف عن فرنسا في منح المرأة حق التصويت سوى بسنوات قليلة، وصاغ سليم حيدر، الحاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، أول قانون لبناني لمكافحة الفساد في عام 1953.
وذكر حيان "كانت تلك هي العقلية السائدة... أن لبنان يلعب دور الريادة بالفعل حتى في الأمور القانونية والدستورية. لكنه لم يكن يعلم أن كل هذه القوانين التي عمل عليها لن يتم تطبيقها على نحو سليم صحيح وربما لن تُطبق على الإطلاق، مثل قانون مكافحة الفساد".
ويُنظر إلى الستينيات على نطاق واسع على أنها عصر ذهبي، إذ ازدهرت السياحة، ومعظمها من العالم العربي، كما ازدهر المشهد الثقافي للمسرح والشعر والسينما والموسيقى، وكان من بين الزوار المشهورين بريجيت باردو، وكان مهرجان بعلبك الدولي، الذي يقام وسط الآثار القديمة في سهل البقاع، في أوج تألقه.
واستضاف كازينو لبنان مسابقة ملكة جمال أوروبا عام 1964، وعرض المتزلجون على الماء مهاراتهم بالقرب من فندق سان جورج في بيروت، وكتب المؤرخ والصحفي الراحل سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت" أن الزوار كانوا يغادرون البلاد وفي أذهانهم صورة شاعرية مضللة للمدينة التي لا تلقي أذنا صاغية للعداوات التي تستعر الآن تحت السطح ولا ترى الأخطار التي بدأت تلوح في الأفق.
كان قصير، الذي عررف بمعارضته للوجود العسكري السوري في لبنان، قد اغتيل في انفجار سيارة ملغومة في بيروت عام 2005.
أرض خصبة
وتقول ناديا سبيتي، الأستاذ المساعد في دراسات الشرق الأوسط بالجامعة الأميريكية في بيروت، إنه على الرغم من البريق والإبهار، تركت السياسة الطائفية أجزاء كثيرة من لبنان مهمشة وفقيرة، مما وفر أرضا خصبة للحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.
وأضافت "الوجه الآخر للستينيات لم يكن ممثلو هوليوود ومهرجانات بعلبك فحسب، بل شمل التدريب على أساليب حرب العصابات في المناطق الريفية من البلاد"، كما تضرر لبنان من تبعات قيام دولة إسرائيل في عام 1948، والتي أدت إلى فرار حوالي مئة ألف لاجئ فلسطيني عبر الحدود.
وفي عام 1968، دمرت قوات الكوماندوس الإسرائيلية أكثر من عشر طائرات ركاب في مطار بيروت، ردا على هجوم شنته جماعة فلسطينية مقرها لبنان على طائرة ركاب إسرائيلية، وصرح سليم حيدر، الذي كان نائبا، في خطاب أمام البرلمان آنذاك "حادث المطار إذن هو المنطلق. لقد كشف أننا لسنا دولة. نحن متنزه دولي ومتجر عالمي وبورصة مفتوحة".
وتابع قوله "تجمعنا محمديين ونصارى حول مائدة لبنان المستقل، موزعين طوائف ولا نزال، نصارى ومحمديين، متجمعين على رقعة لبنان المستقل، موزعين طوائف"، وأكد حيدر الذي توفي عام 1980 أنه من أجل بناء الدولة، كان لابد أن يكون إلغاء الطائفية السياسية، التي وصفها بأنها "آفة الآفات" من الخطوات الضرورية.
وقد انعكست مشاكل لبنان المتأزمة على الفن، فقد صورت مسرحية "كارت بلانش" عام 1970 البلاد على أنها بيت دعارة يديره وزراء في الحكومة وانتهت بإطفاء الأنوار وصوت قنبلة موقوتة، وتصف نضال الأشقر، التي شاركت في إخراج المسرحية، بيروت في شبابها على أنها بوتقة انصهار نابضة بالحياة لا تنام أبدا.
وتخرجت الأشقر، إحدى رواد المسرح اللبناني، في الخمسينيات من إحدى المدارس اللبنانية القليلة التي تأسست على أساس علماني وليس ديني، في الحي اليهودي السابق بالمدينة، وقالت إن بيروت كانت في الستينيات مليئة بدور السينما والمسارح.
الإنذار بكارثة
وأشارت إلى أنه إلى جانب القادمين من الغرب، كان هناك أناس يأتون من جميع أنحاء العالم العربي، من العراق والأردن وسوريا ويلتقون في هذه المقاهي ويعيشون هنا ويشعرون بالحرية، لكن كل المسرحيات كانت تحذر من كارثة، وحلت الكارثة بالفعل في عام 1975 مع اندلاع الحرب الأهلية التي بدأت كنزاع بين الميليشيات المسيحية والجماعات الفلسطينية المتحالفة مع الفصائل المسلمة اللبنانية.
وعرفت هذه الفترة باسم "حرب السنتين" وتبعها العديد من الصراعات الأخرى. بعض هذه الصراعات كانت تناحرا داخليا بين جماعات مسيحية وجماعات مسلمة، ودخلت الولايات المتحدة وروسيا وسوريا على خط الصراعات، وغزت إسرائيل بيروت مرتين قبل أن تحتلها عام 1982، انقسم لبنان وتشرد مئات الآلاف.
وسكتت المدافع في 1990 تاركة وراءها 150 ألف قتيل وأكثر من 17 ألف مفقود، كما أضعف اتفاق الطائف السلطة المارونية في الحكومة، وسلم قادة الميليشيات أسلحتهم وشغلوا مقاعد في الحكومة.
في فترة ما بعد الحرب، تولى رفيق الحريري زمام المبادرة في إعادة بناء وسط مدينة بيروت المدمر، وإن كان كثيرون يشعرون بأن المنطقة فقدت طابعها القديم في هذه العملية، بما في ذلك أسواقها التقليدية، كان الحريري، الملياردير المدعوم من السعودية، أحد القادة اللبنانيين بعد الحرب الذين لم يخوضوا الصراع.
وشمل عفو عام جميع الجرائم السياسية التي ارتكبت قبل عام 1991، وقالت نايلة حمادة رئيسة الهيئة اللبنانية للتاريخ "ما حدث هو أنهم فرضوا علينا فقدان الذاكرة... كانوا يقصدون ذلك. كان الرئيس الحريري أحد أولئك الذين طرحوا هذه الفكرة ... دعونا ننسى ونمضي قدما".
فقدت الأمل
دعت اتفاقية الطائف إلى تعزيز الانتماء الوطني من خلال مناهج تعليمية جديدة تشمل كتاب تاريخ موحد، وكان المنهج الموجود الذي صدر في الأربعينيات من القرن الماضي ينتهي بالاستقلال عام 1943 ، وفشلت محاولات الاتفاق على منهج جديد، وأثارت المساعي الأخيرة، قبل عقد من الزمن، خلافات في البرلمان واحتجاجات في الشوارع.
وتابعت حمادة "يعتقدون أن عليهم استخدام التاريخ لغسل أدمغة الطلاب. ومعظم الوقت، يتعلم اللبنانيون التاريخ في البيت والشارع ومن خلال القيل والقال".
استمرت الانقسامات القديمة وظهرت أخرى جديدة، واندلعت الخلافات بين السنة والشيعة في أعقاب اغتيال الحريري عام 2005. وأدانت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة مؤخرا عضوا في جماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران بالتآمر لقتل الحريري.
وينفي حزب الله أي دور له، لكن المحاكمة كانت تذكيرا آخر بماضي لبنان العنيف، فقد تخللت الأعوام الخمسة عشر الأخيرة عمليات اغتيال سياسية وحرب بين حزب الله وإسرائيل ونزاع كاد يتحول لصراع أهلي في عام 2008.
وبالنسبة للبعض، لم تنته الحرب الأهلية قط، فالصراع السياسي مستمر في الحكومة حتى في وقت الناس فيه في أمس الحاجة إلى حلول للأزمة المالية والدعم في أعقاب انفجار مرفأ بيروت.
ويشعر الكثيرون أن ضحايا الانفجار لم يلقوا ما يستحقون من التأبين على مستوى البلاد، الأمر الذي يعكس الانقسامات، كما يرفض البعض يرفض فقدان الثقة في لبنان أفضل، لكن بالنسبة لآخرين، كان الانفجار هو القشة التي قصمت ظهر البعير، مما دفع الكثيرون إلى التفكير في الرحيل.
وأضافت نضال الأشقر "أنت تعيش بين حرب وأخرى، وتعيد البناء ثم يتحطم كل شيء، ثم تعيد البناء من جديد... لهذا السبب فقدت الأمل".
المصدر : الحرة
شارك هذا الخبر
غارة إسرائيلية تخرق هدوء البقاع فجرًا
تهديد جديد.. السندات الدولية تنذر بمقاضاة لبنان أمام القضاء الأميركي
بيئة "الحزب" غير راضية.. وتململ من بطء التعويضات
بعد إنجاز وقف اتفاق النار.. هل ينجح لبنان باختبار الرئاسة؟
حصيلة جديدة لضحايا القصف الاسرائيلي على غزة والارقام مرعبة!
الحلبي: لتحييد المؤسسات التربوية عن الصراعات وتصفية الحسابات
"من تزوج أُمّي أصبح عمي"... السيد: نصيحة للنظام السوري الجديد!
ما هي أبرز الأحداث العالمية في 2024؟
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa