15/09/2020 07:36AM
لعل ايمانويل ماكرون بدا في بعض الضمائر كأنه واحد من حملة مكانس التنظيف في الشوارع المهدمة، مع الفارق انه يريد تنظيفاً من نوع آخر، لم يبخل بإعلانه
في السر وفي العلن، في ذلك الدور المستجد ولكن غير المستغرب من قبل اللبنانيين، والذي حمل الرئيس الفرنسي الشاب على الدخول في عمق المشكلة اللبنانية، وفي تفاصيلها التي كان يمكن وربما لا يزال ممكناً أن تهدد محاولته.
وليس ذلك لأن الأبالسة تكمن في التفاصيل، لأن الأبالسة أنفسهم يتجسدون في بعض ممتهني السياسة اللبنانية. ليس برئياً هو بالطبع، بالرغم من أن ليس له تجربة شارل ديغول ولا فرنسوا ميتران ولا حتى جاك شيراك. جاء فجأةً من عالم الأعمال إلى السياسة وحرق المسافات كلها في ظاهرة لم تعرفها السياسة الفرنسية من قبل.
من حسن حظنا بالتأكيد، أن من أبرز دوافعه هي الصداقة التاريخية مع لبنان واللبنانيين. وهذا أعلنه وزير خارجيته لودريان قبله وأعاد بالذاكرة إلى عهود فرنسوا الأول ومن سبقه وعلى طول التاريخ اللاحق.
بالطبع جرى الحديث عن كل ذلك، ليس فقط بمناسبة الزيارة، بل بمناسبة المئوية. فرنسا كانت هنا. وهي لا تزال هنا. الرئيس الفرنسي غامر حتى الآن، وهو ابن دولة الحق وتراث أجيال الأنوار، ليجيئ إلى بلد كان مشعاً في العقول والقلوب، قبل أن تحوله السياسة ومصالح محترفيها إلى دولة تحتاج إلى رعاية من فرط الإهمال والجشع وتلاشي المسؤوليات.
وكان من المستغرب جداً، في غمرة هذه المآسي، أن تنطلق أصوات تطالب بالدولة المدنية، من دون أن يدري أصحابها ماذا يقولون وماذا يعنون بها قبل أن يصدهم ماكرون قائلاً "اتركوا هذا الموضوع جانباً الآن" بعدما أدرك أنها مزايدة لا مكان لها الآن. لأن المطلوب واحد وهو الإصلاحات. فإلى ماذا هرب هؤلاء ليطرحوا شعاراً لا مكان له الآن، ولا قبل الآن، ولا في المستقبل المنظور. مثله مثل الحديث عن إلغاء الطائفية والمؤتمر التأسيسي والمثالثة، وكلها شعارات معروفة المصدر ومعروفة الأهداف. أو على الأقل إنها شعارات تُطلق للهروب من المسوؤليات وتحويل الأنظار عنها.
جاءت ذكرى المئوية الأولى لتعيدنا إلى مشهد البداية والبداية لم تكن سوى ترجمة لتراكم حقب الزمان وتحولاته. شاءت الأقدار أن يصبح لبنان في الشرق، وفي العالم في ما بعد، الكيان الوحيد المتنوع بشرياً بهذا الشكل. لا سابقة لذلك من قبل، ولا اقتداء به من بعد. ولذلك برز أمام الجميع، وآخرهم ايمانويل ماكرون، كأنه التجربة التي يجب الحفاظ عليها بعد ترميمها وتنظيفها من الشوائب.
كانت الشوائب كثيرة خلال قرنٍ من الزمن. وإلا ما وصلنا إلى الإنهيار. أبوابٌ ونوافذ مفتوحة وأيدٍ عابثة من خارج ومن داخل، فلم تصمد معها صورة الوطن الرسالة أو صورة الوطن الضرورة، أو غيرها من الصور التي انطبعت في ضمائر كبار العالم، قبل أن تمحى من نفوس صغار المسؤولين والحكام عندنا.
هذا كله كُتِب وقِيل. وبخاصة من على هذه الصفحات المضيافة، التزاماً بقضية هي قضية التجربة اللبنانية. ولكن ماذا دفع ببعض الهاربين من مسؤولياتهم أو من التزاماتهم المذنبة ليطرحوا مواضيع لا علاقة لها بالإصلاح. إذا كان الفساد سمة الحكم والسياسة منذ مدة، فالدعوة هي إلى إصلاح الممارسة وليس إلى إصلاح نظام الحكم، أو الدعوة إلى دولة مدنية، يجهل دُعاتها بالتأكيد عن ماذا يتكلمون. لأن لبنان هو دولة مدنية ودستوره في تلك المادة التاسعة النبيلة يقول: "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية". وهذه مادة سجلت في دستور 1926 وسبقت جميع الدساتير شرقاً وربما غرباً في التركيز على حرية الاعتقاد من جهة وفي أن الدولة ليس لها دين وفي ما عدا موضوع الأحوال الشخصية المرتبط بذلك التكوين المتنوع ليس هناك ما يدعو للاعتقاد أن الدولة في لبنان هي دولة طائفية.
هنالك دول مدنية أو حتى علمانية يُمارس فيها الفساد. ولكن تجري فيها المحاسبة. فالفساد أو شهوة المال هي أقدم شهوات الإنسان. ولكن الدول المتحضرة تمكنت من لجم تلك الشهوة وضبطت الممارسة وأدخلت السارقين والفاسدين في السجون مهما علا شأنهم، والأمثلة عديدة.
وبالتالي، لماذا لم تجرِ حتى الآن في لبنان أي محاسبة، أو أي محاسبة غير "غب الطلب" كما حصل في بعض الزمان السوري. هل الطائفية هي العلة. هل الاحتضان الطائفي هو السبب. هل يلجأ الفاسد إلى طائفته لتحميه؟ ربما حصل ذلك مع البعض. أو هل يلجأ الفاسد إلى مرجعيته السياسية ليرضيه بشكل أو بآخر؟ ربما حصل ذلك.
ولكن ما دخل نظام الحكم في ذلك، ما دخل إلغاء الطائفية في ذلك، ما دخل الدستور في ذلك، ولماذا الهمس والطرح عن المثالثة. لماذا كل هذا الآن، زيادةً في التخريب وفي مضاعفة المشاكل واذكاء عوامل الفرقة والتباعد، وإظهار الخلافات كأنها حول الأساس.
وكان المستغرب أن الطرح جاء من مسؤولين كبار، لو تمّعنوا قليلاً فيما قالوه لأدركوا أن هذا الطرح لن يبقيهم على كراسيهم. تمهلوا قليلاً وتمّعنوا: إذا كان هنالك فاسدون من مختلف الطوائف، فهل إن ذلك يُعالج بإلغاء الطوائف. إذا كان هنالك من خالف الدستور والقوانين، فهل يُعدل الدستور وتُعدل القوانين. إذا كان هنالك توزيع للتمثيل النيابي منذ عام 1922، فهل نلغي ذلك بشطحة قلم لتذوب الخصوصيات ويذوب التنوع الفريد والخلّاق في حسابات الباحثين عن أكثريات يعززها السلاح والتهديدات. إذا كان البحث هو عن مجتمعٍ مدني منفصل عن الطوائف، فابدؤا بكتاب التنشئة المدنية والتنشئة الوطنية. علموا الصغار منذ البداية كيف يصبحون مواطنين في وطنٍ واحد له تاريخ واحد موّحد.
إذا كنتم تريدون وطناً أولويته للمواطن فاقطعوا علاقتكم المذنبة بالمراجع الخارجية ودعوا هذه التجربة تحقق نجاحها المفترض، لأنه سبق لها ونجحت، سبق لها وتحولت إلى نموذجٍ لعالم اليوم قبل أن تخربوها وتحولوها بالقوة إلى ساحة صراع ومستودع للصواريخ.
هذا كله يسبق الشعارات غير المدروسة، والتي تساق اليوم في غير محلها إطلاقاً. أولاً تجرأوا وحاسبوا، وحققوا شعاراتكم الأولية على الأقل. ما من فاسد وإلا وتحدث عن الإصلاح، في بلاغةٍ تشبه تلك "القحباء" التي تحاضر عن العفاف على ما قاله سعيد تقي الدين.
لقد انكشفتم منذ زمن طويل. ولكن لبنان كُشف معكم بكل أسف، إلى حد أن ذلك استلزم مجيء من يعيد الإمساك بيده، وانتم تحاولون الإفلات لتعودوا إلى الممارسات السابقة، لم تتعلموا شيئاً ولم تنسوا شيئاً، على لغة تاليران، ذلك الدبلوماسي الفرنسي المجرّب الذي خَبِر سياسات فرنسا في ما قبل الثورة الفرنسية وما بعدها.
جاء الرئيس الفرنسي ليحاول. إنه رسم خريطة طريق واضحة وجريئة. والتزم بها الجميع. تميّز أسلوبه بالطبع عن الأسلوب الأميركي في التعامل مع حزب الله. لعله حفظ مقولة شارل ديغول أن "لا سياسة تصلح خارج الواقع"، وهو قال إن حزب الله موجود. أما مسألة سلاحه فدعا إلى تأجيل البحث فيها. لم تتردد أصداء الإصلاح الشاملة منذ مؤتمر سيدر في نيسان 2018 حتى الآن في آذان المسؤولين اللبنانيين. لم يسمعوها. لذلك هو جاء في محاولة أخيرة. قبل الإنهيار الأخير.
اتركوا الدولة المدنية جانباً. فهي أكبر منكم، ولا مكان لها. اتركوا كل الشعارات حتى تلك التي نطق بها الثوار. اتركوا شعار "الشعب يريد تغيير النظام" فلبنان ليس سوريا. وانصرفوا إلى أمرين فقط لا ثالث لهما: الإصلاح والمحاسبة وهما وحدهما الممكن الاقتراب منهما بجدية. إذ ذاك تواجهون حقاً تصبحون مسؤولين واتركوا الدولة المدنية جانباً، فهي مسار طويل جداً لن يحصل في أيامكم.
المصدر : النهار
شارك هذا الخبر
بيان للجيش عن الأخبار غير الدقيقة... إليكم التفاصيل
في العقبة: إحباط تهريب وثائق من مقر الإخوان وتورط نائب في البرلمان
لماذا غاب كريستيانو رونالدو عن جنازة ديوغو جوتا؟
إيران: وضعنا خطة لشلّ إسرائيل إذا هاجمتنا مجددًا
الحزب جثة! يوسف سلامة يدعو الدولة الخائفة من جثة الحزب الى الاستقالة..ويكشف هؤلاء اغتالوا الحريري
بعد سنوات من القطيعة... بريطانيا تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا
مالك يناشد بري إنصاف المغتربين ويؤكد خوض المعركة ويتحدث عن دور وزير العدل بحال التسوية بين عون وبري
أخبار حزينة من غزة: آلاف الأسر بلا مياه منذ أسبوع
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa