احتلّ المرتبة ما قبل الأخيرة على لائحة «تعساء المعمورة»! لبنان... «بيت بمنازل كثيرة» أصابها الصُداع والتصدّع

21/03/2023 06:39AM

كتبت صحيفة "الراي الكويتية":

- الدولار اخترق حاجز 120 ألف ليرة والآتي أعظم

- الانقسامُ السياسي يستجرّ نزعاتٍ انفصاليةً و«انشطاراً» بين مشروعيْن ونمطيْن من العيْش

لبنان «يزحل» عن ماضيه، هويته، ودوره، وكأنّه يُقتاد إلى حتفه مكبّلاً بأزماتٍ سياسية، مالية ونقدية، زجّت غالبية أبنائه في ما يُشبه «بؤس لاند» إما أطْبَق عليها الفقر المدقع وإما تعاند على حافته.

ومع الإمعان في ترْك الوطن الصغير «جمهوريةً مقطوعة الرأس» في ظلّ التعقيدات المُسْتَحْكِمة التي تطبع الانتخابات الرئاسية العالقة منذ نحو 5 أشهر والمرشّحة لمزيدٍ من المراوحة السلبية أقله ريثما تنقشع الرؤية في التحوّلات الاقليمية وتنقضي أسابيعها الاختبارية، فإن الانزلاقاتِ المتواليةَ في السياسة والمال والوضع المعيشي تنذر بمزيدٍ من «تعديلات جينية» على مرتكزاتٍ لطالما طبعتْ «بلاد الأرز» وصمدتْ في أيام الحرب والسلم بعدها.

وبات كثيرون يخشون على لبنان من الندوب التي تحفر عميقاً في جسمه المثخن بجراحٍ قد لا تندمل بالضرورة بمجرّد إتمام الاستحقاق الرئاسي، الذي بات «إنجازاً» أن تنجح ولو محاولةٌ لجمْع كوكبة من النواب للتحاور حوله وإن تحت عباءة الكنيسة ويافطةِ «رياضة روحية وصلاة» كما سيحصل في 5 أبريل المقبل، وذلك مع تَوالي الـ «نعم» من مختلف الكتل المسيحية على تلبية الدعوة التي وجّهتها بكركي للنواب المسيحيين الـ 64 (أبدت القوات اللبنانية أمس موافقتها على المشاركة).

فلبنان لم يعُد لا «سويسرا الشرق» ولا «لؤلؤة العرب» كما انطبع في ذاكرة أبنائه وأصدقائه العرب والغربيين، صار شيئاً آخَر... وجهُه الحضاري يتغيّر على نحو دراماتيكي. ذلك الوجه الذي كان يُشكّل نموذجاً في الأناقة والرقيّ والريادة يتجه لأن يصبح هشاً، مهشَّماً، شاحباً، شاكياً تتآكله الأزمات المالية والمعيشية وتنخره ايديولوجياتٌ غريبةٌ ونزْعاتٌ انفصاليةٌ، وتقبض على أنفاسه مشاريع ظلامية، ومعها تتحوّل البلادُ والعبادُ بقعاً متفرّقة، مشتَّتة، متناثرة، لكل منها حياتها ونموذجها الخاص في التأقلم مع «أم المحن» التي تعصف بالوطن الصغير الذي كبر يوماً بدوره ورجالاته وفرادته قبل أن يستكبر عليه الآخَرون ويستصغروه.

في الـ «بيت بمنازل كثيرة» (وهو عنوان كتاب المؤرخ كمال الصليبي في لبنان) المنازل مُتَنازِعة، متشقّقة، متطاحنة... والبيوت معتمة يسكنها اليأس، والشوارعُ مُظْلِمَةٌ كالآتي، تقيم فيها الحفر والنفايات، والبلداتُ أشبه بجزرٍ صغيرة تحاول العيشَ على إيقاعها الخاص كأنها تنطوي على نفسها وتنعزل.

لم يَعُدْ ذلك الرابط الذي اسمه السلطة «على عِلاتها» يظلل الجميعَ. وذاك النموذج الفذّ الذي قيل إنه «التنوّع داخل الوحدة»، تَقَهْقَرَ حتى الإنهاكِ.

فها هي الانقساماتُ تتأجج على المستويات السياسية والطائفية والاجتماعية في ما يشبه انقلاباً أطاح الطبقة الوسطى ومعه أصبح الفقراءُ معدَمين، والمستورون في عراء، والآمنون في عينِ مِحَنٍ مرشّحةٍ لمزيد من الجولات المتوحّشة مع بلوغ الدولار الأسود أمس العِشرية الثانية بعد المئة ألف مسجلاً 120 ألف ليرة وما فوق.

الأزمة المالية - المعيشية التي كادتْ أن توحّد اللبنانيين الذين لا ينفكّون يحطّمون «الأرقام القياسية» بمقياسها السلبي، وآخِرها تربُّع بلدهم في المرتبة 136 ما قبل الأخيرة على سلّم «تعساء المعمورة» وفق تقرير السعادة العالمية (نُشر أمس) تليه فقط افغانستان، سرعان ما زادتْ تشرذمهم بقوةِ سطوة المنظومة الحاكمة فأعادتْ قسمتهم بين معسكريْن، كما حصل في العام 2005 حين افترقوا حيال «الخيارات السياسية» التي تتخذ الآن شكلاً اجتماعياً في نظرةِ كل طرف إلى «مشروع الآخَر» مع تلاشي المشروع الجامع، أي الدولة كمرجعية يستظل خيمتَها الجميع.

في هذه الأيام من 2005، وغداة انفجار لعبة الدم باغتيال الرئيس رفيق الحريري، انقسم اللبنانيون بين طرفين سياسيين: «8 مارس» و«14 مارس»، وكان الانقسام أفقياً وليس طائفياً.

وللمرة الأولى بعد الحرب (1975 - 1990) اختلط المتظاهرون في قلب بيروت شعبياً واجتماعياً في تحالفيْن عبَرا الطوائف والمناطق... «14 مارس» كحركةٍ شعبية ذات نكهة سياسية استقلالية هدرتْ جماهيرُها من طرابلس وجبل لبنان وعاصمة الجنوب (صيدا) والبقاع ومناطق أخرى مترامية، و«8 مارس» التي نزح إليها تيار العماد ميشال عون وضمت «الثنائي الشيعي» - أي «حزب الله» وحركة «أمل» وشخصيات موالية لسورية وإيران.

وإذا كانت اللحظات «الفريدة» التي عبَرت آنذاك (2005) عكستْ وجهاً من وجه «الوحدة» في الاختلاط السياسي والاجتماعي والمناطقي، فإن تظاهرات انتفاضة 17 أكتوبر 2019 أعادت تجديدَ هذا المشهد، فتضامن الجميعُ في وجه السلطة وأحزابها التي تحيّنتْ الفرصَ للانقضاض على الانتفاضة التي رفعتْ شعاراتٍ زاوجتْ بين الخبز والحرية، وبين كرامة الإنسان ومحاسبة الفاسدين.

بين 2005 و2023 وما شهده لبنان من زلازل أمنية وسياسية ومالية، كالاغتيالات وتعليق تداول السلطة والانهيارات المالية - الاقتصادية، لم يخرج الخطاب الطائفي إلى الحد الذي وصل إليه اليوم مع استعادة «نغمة» الفيديرالية كاسم حرَكي للحال اللبنانية المأزومةِ إلى حد التورّم الذي يهدد بالانفجار ربْطاً بالأزمة السياسية المعطوفة على الانهيار المالي، والذي يعيد ترسيم المواجهة بين شعاريْ «حب الحياة» و«ثقافة الموت» بما يشبه ما انطوتْ عليه المنازَلة في 2005.

ترفع مجموعاتٌ تعارض «حزب الله» وخياراته عناوين، في حملاتها السياسية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل على ما تسبّبت به «الممانعة» من بؤس وخراب وفسادٍ أينما حلّت، على غرار ما جرى في سورية والعراق واليمن وقطاع غزة، إضافة إلى لبنان، في الوقتِ الذي تعيش الدول الأخرى في العالم العربي صحواتٍ من التقدم والحداثة والانفتاح والتألق، وهي مفارقاتٌ تنطوي على حسرةٍ وتَفَجُّعٍ لِما أصاب بلاد الأرز التي أفضى تبدُّل موقعها إلى تغيُّرِ واقعها رأساً على عقب.

ومن إحدى المفارقات الاجتماعية التي تَسبَّبَتْ بها الأزمةُ الاقتصادية والمالية هي الوجه المتجهّم للمجتمع اللبناني.

بين النكات المتواصلة على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين الحقيقة البشعة التي تواجههم، تكاد لا ترى ابتسامة على وجوه اللبنانيين. فثمة واقع مُرّ ينعكس بتفاصيله على الأرض، حيث ينعدم الاستشفاء والحصول على دواء وتعليمٍ جيد وعلى الأموال من المصارف.

وإلى كل ذلك، أضيف تدريجاً هذا الشعور بالغربة الداخلية بحيث لم يعد شعار الفيديرالية «طائفياً».

صار الانفصال أكثر تجذُّراً من قَبل بين فئتين: واحدة تريد العيش برخاء وأخرى تريد فرضَ إيقاعها في الاستمرار بلبنان من ضمن محورٍ سماه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي في عظته أخيراً، «فئة الممانعة».

ومع حدة التدهور الاجتماعي والاقتصادي، صار مألوفاً مشهد اللبنانيين الموزَّعين بين فئتين، الراغبين في استعادة أحلام السفر والبحبوحة والعيش الرغيد، والقانعين تحت سقفٍ سياسي باستمرار الأزمة الراهنة.

وفق ذلك تغيّرت وجوه المدن والبلدات بين مجتمعِ حربٍ ومجتمعٍ يفتّش رغم الضائقة الاقتصادية التي ضربتْه عن معنى البقاء بالمستوى المطلوب من تأمين متطلبات الحياة.

ولذا أصبح مشهد الفقر المتمادي والتسوّل والازدحام السكاني والفوضى العمرانية وانعدام النظافة في بلداتٍ وقرى ومجتمعاتٍ غارقة في أزمات اقتصادية واجتماعية يشكل نموذجاً صارخاً عن تحلُّل التركيبة الإدارية - السياسية.

واستطراداً، لم تعد أحلام اللبنانيين بنموذج وسط بيروت - سوليدير التسعينات، والأسواق، والكسليك، والجميزة ومار مخايل والبترون والأرز وجبيل وبيت الدين، والمهرجانات والرقص والموسيقى والمجمعات البحرية ومراكز التزلج، هي نفسها اليوم لدى كل فئات المجتمع اللبناني.

وبهذا المعنى لم تعد هذه الأحلام حكراً على طائفةٍ بل تمددت الى مجتمعاتٍ باتت تحلم بالسفر والهجرة كما يحصل في عروس الثورة طرابلس، المدينة العائمة على بحر من الفقر والعوز، ولو في زوارق الموت من أجل ان تحظى بحياة أفضل.

ولم تعد الرغبة واحدة بين كل الفئات اللبنانية، في العيش على مذابح الموت المتكرّر والانتحار والتسوّل على أبواب الجمعيات والركض خلف الراتب الضئيل والمساعدات الإجتماعية ومن دون كهرباء أو مياه نظيفة بلا كوليرا، ومواد غذائية منتهية الصلاحية، وبلا سيارات حديثة.

كل هذا الانفصال تعيشه أجيال شابة، بعدما أتعبتْ الحربُ أجيالاً مخضرمة، بين عالمين: عالم يعيش على حافة الموت، وعالم يحلم بالأفضل في مجتمعات متشابهة ومتجانسة في رؤيتها لمستقبلِ الحياة بعد خمسين سنة من الحرب المتواصلة، مع الخشية الدائمة من أن تندثر أحلامُ جيلٍ بعد آخَر، فيصبح لثقافة الموت معرض دائم في لبنان.


المصدر : الراي الكويتية

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa