إسقاط خرافة القداسة عن "الأم" يمنحها العدالة والسلام!

21/03/2023 12:32PM

كتبت تيمة حطيط في "السياسة":

هالة من القداسة أحيطت بها المرأة "الأم"، حين سُيّجت بمعايير مثاليّة منحتها درجة استحقاقها لهذا اللقب، الذي يعتبره المجتمع واجبًا لا يستحق الشكر، سوى في الحادي والعشرين من آذار! حيث يصطحب معه أحكامًا معلّبة تراشَق بها النساء اللواتي تحرّرن ممّا يفوق قدراتهنّ اتجاه تربية أطفالهنّ.

بدأت المعضلة بسبب الترويج لصورة الأم كروبوت يمتلك صفات خارقة، وقدرات "فطريّة" تمكّنها من آداء مهامها على أكمل وجه من دون تذمّر أو كلل، مقابل افتقار الآباء لهذه القدرة ممّا يبرئهم من أي تقصير.

وفي سياق الحديث عن تقسيم المهام جندريًّا يستوقفنا نمط الحياة الذي تتّبعه قبائل "باياكا" في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي اشتهر رجالها على السوشيال ميديا باسم "أفضل آباء في العالم"، إذ تفرض الأعراف على الأب أن يرعى صغاره بينما تذهب الأم للصّيد. وهو ما يشرّع أبوابًا للتساؤل: من الذي حدّد للأمهات في مجتمعاتنا جندريًّا المعايير السائدة؟

تقول الكاتبة الفرسيّة Simon de Beauvoir "ستظلّ المرأة مستعبدة إلى أن يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة والغريزة الأبويّة"، وهو ما يقودنا للعودة إلى أصل تشكّل الصورة النمطيّة للأم وللعائلة.. فالإنسان البدائي ألقى بوزر التربية على عاتق النساء، بسبب طبيعتهن البيولوجيّة التي تفرض عليهن تحمّل تبعات ممارستهن للجنس وإنجابهنّ، ومن ثم البحث عن شريك يساهم في رعاية الأطفال، مقابل عدم اكتراث الرجل الذي لا تترتّب عليه هذه التبعات للفعل الجنسي نفسه!

ومع مرور آلاف السنين وتطوّر المجتمعات وتنظيمها نشأ مفهوم "العائلة" الذي ألزم الرجل بالعطاء، لكنه أحاط المرأة المنجبة بمزيد من الأعباء والقدسيّة، واستنزفت طاقتها وقدرتها على الصبر وعلى التفاني في سبيل أطفالها، خصوصًا أنّ "الحضارة" حين تطلّبت المزيد من القوى العاملة سعت إلى تشجيع النساء على إنجاب المزيد. 

واستكلمت الحقبات الزمنيّة رمي سهامها على المرأة، بالمناشدات لعودتها الى المنزل بهدف "تعويض الخسائر البشريّة" خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ثم بتخصيص يومًا للاحتفاء بالأمهّات. أمّا ختامها فكان مع ظهور الأديان القديمة ومن ثم التوحيديّة التي كرّست المفاهيم السائدة بتحميل المرأة هذه المسؤولية، وللمفارقة! تعاني النساء رغم المهام الموكلة إليهنّ من انتزاع حقّهن في حضانة أبنائهنّ ضمن المحاكم الشرعيّة.

اليوم ومع سيادة النظام البطريركي باتت أي محاولة للتحرّر من معاييره، تجعل المرأة رهن تهديد الهجوم الاجتماعي عليها، مقابل تجذّر الصورة النمطية القاضية بضرورة امتلاك الأم صفات كالهدوء والصبر والجمال وتحقيق الذات والطاقة المفرطة والحكمة والقوة والتفاني غير المتناهي، ممّا دفعها للسعي الدؤوب إلى المثاليّة ورضى الآخرين.

هذا النقد تلقاه المرأة بدءًا من العائلة ومرورًا بالأصدقاء وبالقوانين وبالتشريعات، وكذلك من الأمهات الأخريات، ومن الزوج وعائلته بطبيعة الحال! ممّا يؤثّر على صحّتها النفسيّة ويتسبّب لها بالقلق وبالشعور المتواصل بالذنب بعد فقدانها أمل الوصول الى مرتبة "المثالية" التي تسعى إليها. 

تقول د. جانين زيادة أبو طقة – وهي أستاذة جامعيّة ومعالجة نفسيّة – إن الصحة النفسيّة للمرأة تتأثّر بشكل كبير حين نحمّلها ما يفوق طاقاتها ونطلب منها أن تكون "أمًّا مثاليّة"، إذ أنها وبعد إصابتها بالتعب والإرهاق الشديدين تُستنزف قواها وتفقد قدرتها على العطاء بطريقة سليمة.

"مرام" هي أم لشابّين ربّتهما بعيدًا من أب معنّف لها ولهما، أحدهما بات طالب ماجستير.. تقول "لقد أفنيت عمري في سبيل أن أكون أمًا مثاليّة إلى أن نسيت أنني أنثى، لقد تحمّلت مهام الأم والأب إضافة إلى عملي خارج المنزل، ورغم ذلك كنت أُلام عند أي تقصير دراسي أو تربوي، بينما لم يلقَ على عاتق الأب الأمر نفسه". وتضيف: "لأنني أم يُحرّم عليّ أن أتمرّد أو أن أقول كفى، بل يتوجّب عليّ الصمت والصبر وتحمّل الأذى ومجابهة الصعوبات بمفردي في الساحة". 

تعرب "مرام" عن أمنيات شديدة البساطة: "أرغب بالخروج وحدي لارتشاف القهوة بصفاء ذهني، بعيدًا من قلق متابعة الأبناء طوال الوقت، أرغب بالتسوّق من دون الشعور بالذنب اتجاه رغبات أبنائي، وأتمنّى الجلوس بمفردي أو سماع موسيقى محبّبة إليّ، من دون أن أشعر بالخوف من التقصير!" 

الصبر على تعنيف الزوج، وتفريغ المرأة وقتها لتربية الأبناء، وتحمّل مسؤولية أي تقصير أو فشل، والرضاعة الطبيعيّة وغيرها من الواجبات المنوطة بالمرأة، كلّها قد تتسبّب بهجرانها لميدان العمل وفقدانها تطوّرها على الصعيد المهني، وبعدم تمكّنها من التحرّر الاقتصادي... وبالتالي بخسارتها حرّيتها وحقّها في اتخاذ القرارات، وجعلها رهن سلطة الزوج والحظ! 

في المقابل، لن يكون الوضع أفضل حال في ما استمرّت هذه الأم بعملها، إذ ستلقى قوانين تميّز بينها وبين الرجل لجهة الرواتب والمستحقّات بذرائع تتعلّق بطبيعتها البيولوجيّة ووضعها الاجتماعي الذي لا يفرض عليها واجبات اقتصاديّة، رغم أنها باتت شريكة الرجل في ذلك.

"مريان ريشا" هي امرأة أخرى بذلت قصارى جهدها لتربية إبنها، تدلي بتجربتها أيضًا: "لقد تركت قبرص وعملي ومستقبلي المهني، ثم عدت مع إبني إلى لبنان كي لا أخسر حضانته، وأنا حاليّا أربّيه بمفردي.. فقدت حياتي الخاصّة بشكل كامل بعد أن جعلته محورًا لها". تشتكي مريان عدم قدرتها على اللّحاق بالمهام كلها، وتتمنّى منح نفسها بعض الوقت: "أبحث عن امتلاك ساعة واحدة لنفسي، أنا مرهقة جدًا! فالمعايير المثاليّة غير عادلة.."

تقاسي الأم في المجتمعات العربيّة تحديدًا هذه الأحكام الأبويّة، فشعورها بالتقصير وبجلد الذات يفقدها الكثير من الطاقة ويرهقها عاطفيًّا ويهزّ ثقتها بأمومتها، وهو ما ينعكس بالسلب على الأبناء – إن أراد المجتمع الالتفات لهم من دون والدتهم – إذ أن تزعزع هذه الثقة يفقدها المزيد من القدرة على العطاء، كما أن شعور الطفل بحراسة أمه لكيانه المادي والعاطفي بشكل كامل ودائم، يحول دون عودته إلى "أناه" بسبب وجود "الآخر المُخترق" له دائمًا. بينما مساعدته على تحمّل المسؤوليّة وإشراكه في الأعمال المنزليّة - على سبيل المثال - يمهّد له الطريق لمجابهة الحياة. 

وفي السياق تؤكّد د. جانين لـ"السياسة"، أنّ الرعاية المفرطة للطفل تتسبّب بمنعه من امتلاك "الأنا"، التي تتطلّب منحه استقلاليّته وهويته الخاصة به، كي يصبح قادرًا على فهم احتياجاته والتعبير عن رغباته، بدلًا عن خضوعه التام الذي يجعله ظلًّا لأمّه، ممّا يبني شخصيّة تابعة للاخرين ساعية لإرضائهم بشكل مستمر، وعاجزة عن بناء علاقات سليمة معهم، وبالتالي تغدو معرّضة للكثير من الاضطراب النفسيّة.

من جهة أخرى تحذّر د. جانين زيادة من خطر تزعزع شخصيّة الطفل، في حال تحمّلت الأم مسؤوليّة العطاء والرعاية لأبنائها بشكل غير مساوٍ مع الرجل، فتؤكّد لـ"السياسة"  ضرورة تقسيم الأدوار بين الأم والأب "إن ذلك يزرع في لاوعي الطفل صورة متناغمة لعلاقة الأب بالأم وبالتالي لمفهوم العائلة، وهو ما ينعكس بالإيجاب في بناء كيانه". 

وعن ضرورة وجود الأب من الناحيّة العلميّة تقول د. زيادة "إنّ الطفل الذكر يحتاج لوجود أبيه كي يتماهى معه ويبني شخصيته في ما بعد، وكذلك لوجود أمّه كي يبني صورة المرأة في مخيّلته. والعكس بالعكس بالنسبة للفتاة التي تحتاج والدها كي تحدّد ملامح صورة الرجل السليمة بالنسبة إليها، كما أن تتماهى مع والدتها". 

إنّ الصورة المعلّبة للأم المثاليّة تمنع النساء من خلق مفاهيمهنّ الخاصّة لتعريف "الأمومة"، وتدفعهن إلى السعي الدائم لتبرئة أنفسهنّ من وصمات الشرّ والخذلان! لكنّهن اليوم ومع تصاعد أصوات النساء ومطالباتهنّ بحقوقهنّ بتن أكثر وعيًا وقدرة على اختيار ما يناسبهن.. فهنّ لا يحتجن إلى أعياد ورمزيّات وتمجيدات، بل إن جلّ ما ينتظرنه هو بعض العدالة والمساواة بشأن حقوقهنّ، والنظر إليهنّ كبشريّات تمتلكن حدودًا للعطاء. فعذرًا، لسنا روبوتات! 


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

02:49PM

مأساة في طرابلس.. وفاة عاملة إثيوبية بعد سقوطها من الطابق السادس!

02:31PM

"الخارجية": حان الوقت ليترجم المجتمع الدولي أقواله إلى أفعال!

02:23PM

بالشراكة مع "لجنة الإنقاذ الدولية".. وزارة الشؤون تطلق المعايير الوطنية لدور الحضانة

02:16PM

بيان للأمن العام بشأن رسوم المعاملات.. إليكم ما جاء فيه

01:49PM

القناة 12 الإسرائيلية: صاروخ سقط في العراق يستخدم لأول مرة بالمنطقة ولا تمتلكه سوى دول قليلة في العالم

01:46PM

جعجع: ما هي التدابير التي اتخذها التيار الوطني الحر منذ العام 2011 في مسألة اللجوء السوري؟ حتى منذ العام 2016، ماذا فعل رئيس الجمهورية مع أكثرية وزارية ونيابية؟ التيار الوطن الحر "معجون عجن" بالغش، وقبل اتهامنا بأي شيء ليقول لنا ماذا فعل في هذا الملف

01:42PM

جعجع: البعض يتحجج بأن أعضاء شرطة البلدية غير كافيين لمعالجة مشكلة اللاجئين السوري، ومن هنا نحن مستعدين لتقديم متطوعين للعمل على هذا الملف في المناطق، ومن اليوم وصاعداً لن نسكت عن أي تقصير أو تقاعس

01:40PM

جعجع: وزير الداخلية يقول إنه ضد الأمن الذاتي. معالي الوزير جميعنا ضد الأمن الذاتي ولكن عليك القيام بعملك، وأول أمر يجب معالجته هو حل قضية اللاجئين، وعدم تحرك الدولة يدفع الناس للذهاب إلى الأمن الذاتي

تواصل إجتماعي

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa