كَبرَ لبنان... ومات

08/08/2024 11:14AM

كتب قزحيا ساسين في "السياسة":

لبنان، الذي تعرفونه، مات.

مات بالسّكتة الوطنيّة.

مات، لأنّه وطن لم يستطع الوصول إلى ذاتِه.

مِنّا مَن دعا للبطريرك الياس الحويّك بطول العمر، لأنّه اخترع لبنان الكبير، الذي نعرفه، منذ مئة عام، ومنّا مَن اعتبره مسؤولا عن الأذيّة التي لحقت بالمسيحيّين، بسبب رفضه التوسّع صوب وادي النصارى في سوريا، بدل ضمّ أراضٍ إلى لبنان "الصغير"، تحمل عليها أكثريّة إسلاميّة، تهدّد، على مرّ الوقت، المسيحيّين عدديّا...

لا شكّ في أنّ الحويّك تمكّن من تجنيب لبنان الانضمام إلى سوريا الموحّدة بقيادة الملك فيصل، ولا شكّ في أنّه أيضا وجد في إضافة مدن ومرافئ وسهول، إلى حدود لبنان "المتصرّفيّة"، مُتنفَّسا اقتصاديّا، لا سيّما بعد الحرب العالميّة الأولى...

غير أنّ التمثيل النّسبيّ للطوائف الذي أرساه الحويّك ودافع عنه في دولة لبنان الكبير، أثبتَ من مئة سنة لليوم تراجُع الحضور المسيحيّ على مستوى العدد، وتقدّم الطوائف الأخرى.

قد لا تكون هذه المسألة، على أهمّيّتها مشكلة المسيحيّين مع دولة لبنان الكبير، إنّما أزمة لبنان باتت أمام مفترَق طرُق صعب جدّا، ولا حلّ لها، لأنّ اللبنانيّين لم يصلوا بعد إلى المُواطَنة التي تتّصف بالمساواة حقّا وواجبا، تحت سقف القانون، في دولة مؤسّسات مستقلّة، يتمّ الفصل فيها بشكل كامل بين الدّين والدّولة.

أمّا لماذا لبنان الذي نعرفه، أو الذي نريده مات؟

فالأسباب كثيرة جدّا، ومنها أنّ اللبنانيّين أنشأوا أحزابا طائفيّة، وكان لكلّ حزب تعليلاته، والقاسم المشترَك الحقيقيّ بين كلّ الأحزاب هو الخوف من الآخر، في غياب دولة ذات نفوذ تحمي مواطنيها، وترعى حقوقهم وواجباتهم. وإذا كان من أحزاب غير طائفيّة، فهي أتت بدعم من الخارج، وتجتاز بعقائدها مفهوم لبنان الدولة، وتتحرّك سياسيّا وعسكريّا، بقرار غير صادر عن الدولة اللبنانيّة.

عمليّا، مرّت خمسون عاما من تاريخ لبنان الكبير، وهو في حرب متواصلة، تارة تسمّى حربا أهليّة، وأخرى مقاومة... لكنّ الثابت أنّ الاحتلال السوريّ والفلسطينيّ رعى هذه الحرب وشارك فيها نصف هذه المدّة المذكورة، وأتى بعده الاحتلال الإيرانيّ ليُكمِل المسيرة.

إنّ المواجهات العسكريّة بين اللبنانيّين أثبتَت أنّها ليست حلّا، ومن غير الممكن أن يستأصل أيّ مكوّن لبنانيّ مكوِّنا آخَر بالقوّة. كما أثبتَت السياسة أنّ اللبنانيّين لم يلتقوا حول نظرة واحدة للبنان، وما يعزّز الفرقة والاختلاف، دائما، استئثار فريق معيّن، في فترة معيّنة، بالقرار السياسيّ والعسكريّ خارج إطار الشرعيّة اللبنانيّة.

وفي المعنى الحقيقيّ، لبنان ساحة للغرباء، يستعملونها رافعة لهم، بدمٍ لبنانيّ، وهذه الساحة لا يستطيع أهلها تسويرها للأسباب المعروفة.

فكيف ننجو بدولة لبنان الكبير، دولة الحرب التي لا تنتهي، من إسرائيل وسوريا وإيران وأميركا وروسيا؟...

في لبنان، إذا نظرنا إلى عقيدة كلّ شهيد وجدنا أنّ كلّ الشهداء على حقّ، وأنّ كلّ الذين لا يزالون فوق التراب شٌهداء.

إنّها مأساة دولة لبنان الكبير. لبنان الذي لا يمكن أن يصل إلى ذاته، من خلال دولة حقيقيّة.

كلّ الاقتراحات، على المستوى النظريّ قابلة للنّقاش، دولة الطائف، الفيدراليّة، الدولة العلمانيّة... غير أنّ المشكلة الأساسيّة أن لا إجماع لبنانيّا عل الاتّجاه في مسار واحد.

نحن في دولة لبنان الكبير، دولة اللادولة، ودولة العقائد السياسيّة المختلفة إلى حدّ التعارُض والتناقُض.

دولة صار النازحون السوريّون فيها والفلسطينيّون يعادلون الشعب اللبنانيّ عددا.

دولة لبنان الكبير وُلِدَت مَيتة. لقد زيَّنوها وحاولوا تجميلها بألف مديح ومديح، من الجمال الإنسانيّ الذي تِلِدُه المتعارِضات، إلى لبنان الذي هو أكثر من وطن باعتباره رسالة...

لكنّ الواقع يتعارَض مع هذا التّزيين الكلاميّ وإن كان نابعا من صدق قائله وإيمانه بالله والإنسان، والحقيقة الواحدة هي أنّنا في مهبّ الريح منذ مئة سنة، وعلينا أن نتقبّل اليوم فكرة موت الدّول غير القابلة للحياة، وأن نناضل في سبيل ما هو ممكن.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa