جثّة لِ "غينس"... ١٠٤٥٢ كلم٢

14/09/2024 10:28AM

كتب قزحيا ساسين في "السياسة":

نحن نعيش في جثّة خُرافيّة المساحة، مرّ بها أحياء كثيرون، حاولوا زرعَها عملًا وأمَلًا، غير أنّها شَكَت على امتداد مئة عام، تَسَرُّب الحياة من عروقها المثقوبة، وها هي اليوم مُمَدَّدة على الخريطة بِلا نَبضٍ، وليس لأحد شجاعةُ إعلان مَوتها الكبير.

جمهوريّة بِلا رئيس، وكُرسيّ رئاسة أثبَتَ فراغُه الطّويل أنّه، مُمتلِئًا وفارِغًا، هو من الكراسي التي ممنوعٌ أن يجلس عليها رَجُلٌ يقف ساعة يشاء ويجلس ساعة يشاء.

حكومة مُختصَرة بشخص رئيسها، المختَصَر بدَورِه بمشيئة حزب مسلَّح، هو مُختَصَر أيضًا بمشيئة ولاية الفقيه.

مجلس نيابيّ بمثابة "شِيكات" بِلا رصيد، يستمرّ، منذ أن كان، عدوًّا للديمقراطيّة، فهو بعد كلّ مسرحيّة انتخابيّة يكون تحت رحمة التّوافُق بين مُكوِّناته السياسيّة، على الكبيرة والصغيرة، وإلّا فهو مجرَّد ١٢٨ نمرة زرقاء لِلزّينة والتّفشيخ.

دولةٌ أسلمَت مستشفَياتها للموت الرّحيم، ومدارسها للغرباء، حارِمةً أولادها الفقراء من تعلُّم الحَرف الحَلال ليصلوا إلى الرّغيف الحلال.

دولةٌ جوَّعَت جيشَها وقواها الأمنيّة كلّها، والأوادم من موظّفيها، وأطلقَت النّار على مًطارق قضاة شُرَفاء، وتَخلَّصَت من العدالة، خوفًا من أن تجرّ المسؤولين فيها إلى ساحتها، وتكبّلهم بِظلام السّجون.

صحيحٌ أنّ الهجرة عندنا ليست ابنة الأمس القريب، والسّبب هو عدم قدرة رغيف لبنان على إشباع كلّ أبنائه، لكنّ الهجرة اليوم أصبحت قِبلة كلّ اللبنانيّين، باستثناء من لا يستطيع إلى جناح الطائرة سبيلا، وباستثناء القادرين على الاستثمار في مأساتنا، وفي مقدّمتهم أباطرة السياسة الذين لا تكفيهم أعمارهم لِعَدّ أموالهم، وحيتان المصارف والتّجارة، الذين يشترون القانون مثلما نحن نشتري دواء الضّغط والأعصاب...

لا شكّ في أنّ عندنا القليلين من الأحياء يعيشون في هذه الجُثّة العملاقة، وهم أحياء لأنّهم ينادون بمُواطَنة حقيقيّة، وبناء دولة علمانيّة سيّدة، بكلّ مؤسّساتها... غير أنّ هؤلاء القليلين، الذين وُجِدوا في الأمس مِثلما هم موجودون اليوم، لا يستطيعون المُعجزات، استنادًا إلى أنّ دولة لبنان الكبير أبصَرَت النّور وهي مُصابة بِسرطان الرّئة، ووصَلَت اليوم إلى أيّامها الأخيرة. وأثبتَ قرنٌ كاملٌ أنّ لبنان الكبير ساحة لِلَّعب الإقليميّ والدّوليّ، وتسجيل الأهداف بِدَمِنا.

وصحيحٌ أنّ التّوافق على أيّ صيغة لبقاء لبنان يحلّ مُعضِلتَه، غير أنّ هذا التّوافُق الصادِق، الحُرّ، الدّيمقراطيّ لم يحصل يوما، ولا يمكن أن يحصل، لاعتبارات إقليميّة، ودوليّة، ومحلّيّة، هي مُوازِية لوجود لبنان الكبير، وما مِن قُدرة على التخلّص منها بإرادة لبنانيّة جامِعة.

وما سيزيد الجثّة العملاقة مَوتًا امتلاؤها بالغرباء، فالفلسطينيّون والسوريّون، يحملون عندنا صفة لاجئين ونازحين، وهم عمليّا مُقيمون إلى ما لا نهاية، ونحن عمليّا مُهاجِرون، ومُهَجَّرون، لأنّ ما نراه جُثّة عملاقة هو في عين اللاجئ والنازح جنّة عدن، وعليه، فإنّنا سنزداد جحيمًا، ويزداد الغريب عندنا نعيمًا.

على الأرجح، سنبقى المريض، في حالة حَرِجة، فإن أتاه بعضُ دواء من من الخارج تَأخَّر موتُه، وإن لم يأتِه بقي في حالة موت سريريّ مثلما نحن الآن.

على الأرجح، لا دواءَ بَلَدِيًّا لنا، لذلك نحن نعيش في جُثّة تَكبر يومًا بعد يوم، خلافًا لما يَحلّ في الجُثَث الطبيعيّة، التي تتلاشى، ولا يبقى منها سوى أسماء أصحابها.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa