17/04/2025 11:34AM
كتب الناقد السينمائي شربل الغاوي:
في قلب كلّ وطنٍ نبضٌ خفيّ، لا تُسمَع دقّاته إلا حين يسكن الضجيج، وحين تهدأ صراعات الأيام، لتعلو ذاكرة الناس فوق غبار الوقت. ذاك النبض هو الفنّ حين يكون مرآةَ القلوب، ولسانَ حال البسطاء، ومأوى الأرواح حين تضيق بها سبل العيش. وفي وطنٍ لطالما تنقّلت عليه الفصول كما لو كانت قوافل من العناء، ومرّت أيامه كأنّها مواعيد مؤجّلة مع الفرح، بزغ من بين زواياه فنانٌ اختار الضحك فعل مقاومة، والكلمة الطيبة نبضًا، والبساطة فلسفةً تُقارع الزوال. ذاك هو صلاح تيزاني، المعروف باسم “أبو سليم”، الرجل الذي صاغ من الكوميديا ترنيمةَ شعب، ومن الفن الشعبي مرآةً صادقةً لوجدانٍ جماعيّ لا يزول.
فنان الناس… وفطرة الوطن
من المدينة التي تعرف كيف تُربّي العظمة في حضن الصمت، خرج صلاح تيزاني، لا ليكون فنانًا فحسب، بل ليكون حارسًا لذاكرة الناس، وناقلًا لملامحهم، ومُرآةً تعكس أفراحهم الصغيرة وأوجاعهم المكبوتة. حمل الفن لا كتاج استعراضٍ أرستقراطيّ، بل كلغةٍ للفقراء، كلُغَةٍ تشبه لهجة الأمهات حين يتهجّين الحكايات قرب المواقد، كلُغَةِ مَن لم يكن له نصيبٌ من الرفاه، لكنّ له حصةٌ في الدفء الإنسانيّ.
في شخصية “أبو سليم الطبل”، ذاك الذي يُحلّ العقد ويجمع ما تفرّق، لم يكن تيزاني يؤدّي دورًا تمثيليًا، بل كان يتمثّل الناس في صدقهم، في تلقائيّتهم، في خيباتهم اليومية وانتصاراتهم الصغيرة. لم يكن يبتدع الضحكة بقدر ما كان يكشفها، كما لو أنّها كانت خجلى تنتظر مَن يحرّرها. في كلّ مشهد أدّاه، كان يعيد تشكيل الواقع، لا ليُجمّله، بل ليُداويه. لم يعرف الزيف، ولم يطرق أبواب الادّعاء، بل ظلّ أمينًا للبساطة، للصدق، لصوت الناس حين يتكلّمون من دون تكلّف.
من الخشبة إلى الوجدان
لم يكن “أبو سليم” حبيس المسارح، ولا أسير الكاميرات. كان في كلّ حيّ، في كلّ بيت، في كلّ لهجةٍ عفويّة تنطق بالحكمة من غير دراية. جال في الأحياء كما في الصالات، تنقّل بخفّة ظلّه، وبثقل تجربته، وبجذورٍ تضرب عميقًا في التراب. حيثما حلّ، كان الناس يتجمّعون كما يتجمّع الأطفال حول الجدّة حين تبدأ الحكاية، يبحثون عن دفء الكلمة وصدق الشعور، عن الضحكة التي لا تُهين، ولا تُقزّم، ولا تستعلي.
فرقة الأحلام… وجوه من الضوء
ولأنّ الضوء لا يُولد من عتمةٍ واحدة، كان إلى جانب “أبو سليم” رفاقُ دربٍ شكّلوا معه عائلةً فنيّة من نوعٍ نادر، لا تحكمها الأدوار ولا الأنانيات، بل يؤلّفها الحبّ، وتُوجّهها النيّة الطيّبة.
ففي “أسعد النعسان”، تلك الشخصية التي جسّدها عبدالله حمصي، كانت البراءة المقهورة، السذاجة التي لا تخلو من حكمة، والطيبة التي تهزم القسوة دون أن تتقصّد.
وفي “فهمان” الذي قدّمه محمود مبسوط، تجسّدت شخصية النصّاب الظريف، ذلك الذكاء الشعبي الماكر، الذي يسرق القلوب قبل الجيوب، ويقدّم المراوغة كمرآة ساخرة لحال الناس.
أمّا “شكري شكرالله”، الذي جسّده صلاح صبح، فقد كان تجسيدًا شعريًا للبخل، للصراع الأبدي بين التقتير والنجاة، بين الخوف من الغد والحنين إلى الحاضر.
و”جميل”، في أداء زكريا عرداتي، كان البيروقراطي الذي يتحوّل إلى كاريكاتور، ذاك الذي يغرق في التفاصيل وينسى الجوهر، فيضحك الناس عليه وفيه.
و”أمين الغشيم”، في أداء غازي شرمند، كان انعكاسًا بريئًا للتناقض الإنساني: نوايا صافية تنتهي إلى نتائج كارثية.
أمّا “أبو الشباب”، بصوت وقوة عصام كشتان، فقدّم صورة للقبضاي الذي يتزيّن بالعدل، والهيبة التي لا تخلو من قلبٍ طيّب.
و”أستاذ بلبل”، بصوت ماجد أفيوني، كان ذلك الفنان النخبوي الذي وُضِع في قلب المشهد الشعبي، فتلوّنت شخصيّته بوهج المفارقة.
أمّا “درباس”، الذي قدّمه أحمد دنش، فكان تجسيدًا للغرور الأجوف، لذاك الانتفاخ الفارغ الذي يسير بين الناس بلا ظلّ.
وعند هذه المحطّة، لا تكتمل الصورة من دون ذكر شخصيات أخرى رسّخت حضورها في الذاكرة، مثل: فؤاد حسن الزغلول، وفانوس، وبدر، وشرنو، وأبو نصرة، وكوستي…
هذه الشخصيات لم تكن مجرّد أدوار، بل كانت نبضاتٍ حيّة، طيفًا يوميًا يسكن الناس، ويضحك معهم ومنهم دون أن يجرح.
صوت في زمن القصف… وبلسم في عزّ الوجع
حين خفَتت أصوات الفرح تحت وقع الانفجارات، وحين انسحب كثيرون إلى الظلال، ظلّ “أبو سليم” واقفًا، يبتسم وسط الركام، كأنّه يهمس لوطنٍ ينزف: “لا زلنا هنا”. لم يكن ظهوره ترفًا إعلاميًا، بل ضرورةً نفسيّة، حاجةً مُلحّة إلى خيطٍ من أمل، إلى ضوءٍ في العتمة، إلى ضحكةٍ لا تُخيف، بل تُطمئن.
كان الفنّ بالنسبة له وظيفةً روحيّة، وليس منتجًا يُسوَّق. لم ينحُ جانبًا حين اشتدّت العتمة، بل أطلّ، لا ليقول نكتة، بل ليُعيد بعض التوازن إلى عالمٍ مختلّ. ضحكته لم تكن هروبًا من الواقع، بل كانت عزاءً، وكانت رجاءً، وكانت فعل إيمان.
فنّ لا يشيخ… ورسالة لا تنطفئ
صلاح تيزاني لم يكن مجرّد فنان، بل كان ذاكرة، ذاكرة تمشي، وتتكلّم، وتبتسم. هو ليس صفحةً في كتاب الفنّ اللبناني، بل فَصْلٌ قائمٌ بذاته، ببلاغته البسيطة، بنكهته العفوية، برائحة الطفولة التي تشتمّها من أول جملة.
لم يسعَ يومًا وراء الألقاب، ولا ارتدى أزياء البطولات المزيّفة. أراد قلوب الناس، وبلغها. وما من فنانٍ حقيقيٍّ طلب أكثر من ذلك.
اليوم، حين نرى مشهدًا له أو نسمع صوته في مقطعٍ عابر، يُخيَّل إلينا أنّ الزمن يسترجع بعض نبضه، وأنّ الأمس ما زال يعيش في الزوايا الطيّبة من الذاكرة. هو ليس ماضيًا يُذكَر، بل حياة لا تنطفئ، لأن الضحكة الصادقة لا تعرف الموت.
مسيرة فنانٍ زرع الفرح وحصد الخلود
صلاح تيزاني، “أبو سليم”، ليس مجرّد اسمٍ في لائحةٍ فنّية. هو نبض وطن، وضمير شعبيّ، وهمزة وصلٍ بين الروح البسيطة وحلم الحياة الأجمل. هو الدليل على أنّ الفنّ الحقيقيّ لا يحتاج إلى بهرجة، بل إلى صدق. وأنّ الكلمة الطيّبة، حين تخرج من فم رجلٍ مؤمنٍ بإنسانيته، تصبح فعل خلود.
وفي ذاكرة الناس، كما في أرواحهم، سيظلّ “أبو سليم” حيًّا… لأن الفنّ الذي وُلد من الوجدان، لا يموت.
الناقد السينمائي شربل الغاوي.
شارك هذا الخبر
ميتا تستخدم بيانات المستخدمين لتدريب ذكائها الاصطناعي!
غوغل تتوقف عن دعم 3 هواتف أندرويد
زيادات في رواتب الملاك والمتعاقدين في التعليم الرسمي.. وزيرة التربية توضح التفاصيل
التوتر شريك العذراء اليوم..إليكم توقعات الأبراج
إليكم طريقة صحيّة لتلوين البيض في عيد الفصح
تفجيرات واختطاف محتمل في فنادق ومراكز تسوق: تحذيرات أميركية للموجودين في سوريا
لبنان أمام خيار مصيري لحماية استقراره وسيادته
تدابير احترازية يتّخذها سكّان الضاحية
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa