من لندن... دعوة لإعادة تخيّل لبنان كنموذج حضاري للمنطقة

20/06/2025 08:35PM

اعتبر البروفيسور نادر البزري، أستاذ الفلسفة والحضارة، والزميل البحثي في جامعة لندن أن لبنان ليس "مشكلة عبثية في الشرق الأوسط"، بل هو المنصة التي يمكن منها إطلاق ممارسة جديدة للسلام، والتعددية، والازدهار.

وقال البروفيسور البزري في كلمته كضيف شرف في طاولة نقاش خاصة نظّمتها “جمعية الشرق الأوسط” في العاصمة البريطانية لندن، تحت عنوان: “لبنان والمنطقة: الماضي والحاضر والمستقبل”، بمشاركة نخبة من الباحثين والدبلوماسيين والخبراء في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية:

"نحن اليوم لا نعيش مجرد تحول في التحالفات الدولية، بل نقف شاهدين على إعادة ترسيم خرائط موروثة، وعلى تلاشي معالم الجغرافيا السياسية للشرق الأدنى، التي لم تعد قادرة على دعم مشهد مألوف لصراعات يمكن التحكّم بها.

لقد بات من الواضح أن منطق سايكس-بيكو، بوصفه آلة استعمارية للتجزئة والسيطرة، يتعرض لتحديات متزايدة، سواء عبر المواجهة المباشرة أو من خلال اختراقات خفية للحدود.

إن التعلّق ببقايا هذا النظام أو الرثاء لأطلاله هو إساءة فهم للحظة الراهنة بكل ما تحمله من دينامية واستشراف للمستقبل. فنحن لا نعيش فقط نهاية مرحلة، بل بدء عصرٍ من التجدد الوجودي المشرقي – في الهلال الخصيب من بلاد الشام إلى بلاد الرافدين.

يحتل لبنان موقعًا رمزيًا واستراتيجيًا محوريًا في إعادة نسج الجغرافيا السياسية للهلال الخصيب، ليس ككيان منهار، بل كشرط حضاري للإمكان.

إنه ليس فشلًا في نموذج الدولة الوطنية الحديثة، بل يكشف حدود الحداثة التي حاولت قمع التعددية باسم السيادة الأحادية.

لبنان يرفض هذا النموذج، لأنه لا يمكن حكمه بوحدة مصطنعة. إنه يكشف، ربما أكثر من أي مكان آخر، أن الكينونة حين تُسيَّس، تصبح بالضرورة تعددية.

وهذه التعددية في أنماط الكينونة هي الأرض التي يمكن من خلالها إعادة تخيّل الهلال الخصيب، لا من باب الحنين الرجعي أو الخيال المتفلت، بل كإعادة بناء فلسفية للخبرات المعيشة، ولذاكرة جماعية، ولرؤية مستقبلية مبنية على المصالح المشتركة والمصير المشترك.

الهلال الخصيب ليس مجرد وحدة متكاملة للتاريخ والجغرافيا البشرية، بل هو في جوهره حقيقة ميتافيزيقية.

طوبولوجيا لمعاني الوجود تمتد من سواحل الشام إلى سهول الرافدين، لا تحدها جبال طوروس وزاغروس ولا البحر المتوسط أو صحارى سيناء والعربية فقط، بل أيضًا تدفقات حضارية ممتدة لآلاف السنين من تجارة ولغة وتشريع وثقافة ووحي.

وحين نتحدث عن الهلال الخصيب، فإننا نشير إلى الرابط الجغرافي والتاريخي الذي يصل أوروبا بآسيا وأفريقيا، ويربط بين الأناضول ومصر وفارس والجزيرة العربية.

محيط مشرقي-رافدي غني بثقافات الفينيقيين والسريان والآراميين والآشوريين، وهو ما شكّل القاعدة للشتات الهلنستي في العصور القديمة – ليس فقط في مدارس أثينا، بل أيضًا في الإسكندرية وإنطاكية وجبيل وصور.

منطقة شكّلت مهد المسيحية ومركزها الحي الأقدم، كما أضاءت العالم الإسلامي من "بيت الحكمة" العباسي في بغداد إلى القاهرة الفاطمية وقرطبة الأموية، حيث نُقلت الحكمة والعلوم الإغريقية-الرومانية-العربية إلى أوروبا اللاتينية (ابن سينا، الحسن بن الهيثم، ابن رشد...)، وأسهمت في تأسيس مؤسسات مثل كلية الفرنسيسكان في أكسفورد، وألهمت عصر النهضة وحتى الباروك المتأخر.

كما أن هذه الأرض مثّلت عبر التاريخ مركزًا للاعتدال الفقهي المدني السني، ومهدًا للتراث الشيعي الهادئ والحكيم الممتد من جبل عامل في لبنان، الذي ساعد في ترسيخ الروحانية في العراق (النجف وكربلاء)، وعمّق الأساس الفقهي لمشهد الحوزات الإيرانية في قم ومشهد.

لبنان هو المفصل بين أوروبا والشرق الأدنى، ونقطة تقاطع بين البر والبحر، بين العروبة والمتوسط، بين السامية والهلّينية، بين التركي والفارسي، بين التصوف والعقلانية.

وهذا الزخم الحضاري هو ما يمنح لبنان طاقته، لا كمجرد استثناء في مسار حلّ النزاعات، بل كنموذج حضاري قديم يُعاد فهمه ليشكل بوصلة إقليمية.

الحديث عن لبنان هو استحضار لذاكرة جماعية عصيّة على المحو: زمن عميق تتقاطع فيه الأبجديات الفينيقية والقوانين الرومانية، والطقوس البيزنطية والأناشيد الصوفية، والعقل النهضوي والشعر الفرنسي.

وهذه ليست مجرد تراث من الماضي، بل حقل حيّ للمعاني والرموز والوجدانيات.

فما هو سياسي لا يقوم إلا على ما هو رمزي، وأي مشروع تأسيسي مستدام يجب أن ينطلق من وعي حضاري بالذات واعتراف جماعي بها.

الهويات المشرقية، سنية، شيعية، أرثوذكسية، سريانية، درزية، كلدانية، أرمنية، آشورية، نسطورية، مارونية، إسماعيلية، كردية... ليست مجرد بيانات ديموغرافية، بل حاملي تنوّع ميتافيزيقي أصيل.

وهي تشير إلى أن الشرط الإنساني في هذه المنطقة ليس وحدة تقوم على التماثل، بل انسجام ينبع من التداخل والعلاقات المتبادلة.

ما يبرز هنا ليس "فسيفساء"، بل حقل من الغنى التعددي تتقاطع فيه السيادة وتتشابك عبر نحوٍ من الذاكرة الجماعية والتجربة المعاشة.

الكنائس الشرقية – السريانية، الأرثوذكسية، الأنطاكية، المارونية – ليست فقط أنماط اعتراف ديني، بل هي حافظات لبنى لاهوتية تجعل الكلمة (اللوغوس) جسدًا ليس مرة واحدة، بل باستمرار: في التاريخ، والطقس، والممارسة اليومية لمعنى السكن في الأرض تحت قبة السماء.

وتُذكرنا أن الروح لا تختزل في القومية، وأن الإيمان، في عمقه الأقصى، هو انتماء عابر للحدود.

وعلى هذا الأساس، يصبح التفكير في إعادة نسج كومنولث مشرقي-رافدي جديد، ليس مشروعًا جيوسياسيًا ضخمًا، بل أفقًا فلسفيًا متجذرًا في التاريخ العميق، ومتعدد الجغرافيات.

هو فضاء-زمن للسيادات المتجاورة، لا المنصهرة، يُدار بتعددها كتآلفات سمفونية.

كومنولث كهذا يقاوم منطق الإمبراطوريات القسرية وتفتيت الطوائف المعزولة.

ويطرح نموذجًا جديدًا للسيادة المتعددة: حيث لا تتصادم الغيرية مع الاستقلال، بل تتولد منه.

لبنان هنا ليس هامش نظام إقليمي آيل للسقوط، بل مركز مفهومي لنظام جديد محتمل.

مرافئه، طرابلس، بيروت، صيدا، صور، ليست فقط عقدًا لوجستية، بل بوابات حضارية تربط بين الزمان والمكان، بين القديم والناشئ، بين الأسطوري والتقني.

ويمكن لمركز مالي لبناني في بيروت، يُعنى بالاستثمار المستدام والتنمية، أن يكون أداة لا للربح فقط، بل للثقة العابرة للحدود، ولمستقبل تشاركي.

لكن لا بنى تحتية تُغني عن الإنسان.

فالإسمنت والحديد والزجاج والشيفرات الخوارزمية لا تصنع حضارة.

ما نحتاجه هو نحو فلسفي جديد للشرق الأدنى، يعترف بزمنه المركّب، وذاكرته المترسبة، وتنوّعه غير القابل للاستنفاد.

لبنان هو المكان الذي يمكن فيه استعادة هذه المعزوفة، لا نظريًا، بل عبر توتر التجربة اليومية في العيش مع الآخر، تحت شروط هشّة تفتح مع ذلك نوافذ على المستقبل.

إعادة تخيّل لبنان كدولة مدنية لا تعني محو تعدديته، بل دسترتها كمبدأ وجودي.

لا بالتسامح المجرد، بل كفرضية وجودية.

لبنان مدني، قائم على السيادة الحوارية، والحوكمة اللامركزية، والفيدرالية الثقافية، يمكن أن يشكل نموذجًا لما بعد النزاع في دول المشرق.

ليس وسطًا ضعيفًا، بل مركزًا نابضًا.

ليس تناقضًا، بل مصدرًا لفكر وفن ومهارة.

وهذا يتطلب نوعًا جديدًا من الاستثمار.

ليس فقط برأس المال، بل بتقاطع القيم: من بصيرة أخلاقية، إلى ابتكار مؤسساتي، إلى حِسّ فلسفي.

والشتات اللبناني النابض بالحياة، المنتشر دون أن يتشتت، ليس عرضًا لانهيار، بل تجلٍّ عالمي لإشعاع حضاري.

فهو يجسّد المبدأ القائل بأن لبنان، حتى وهو جريح، يواصل الإشعاع عالميًا، وينهض دومًا من رماده، كطائر الفينيق في أسطورته الخالدة.

مستقبل الإنسان – خاصة في هذا العصر الفائق الحداثة من تسارع الذكاء الاصطناعي والتقنيات العابرة للبشر – لن يُضمن عبر السيطرة أو الهيمنة، بل من خلال القدرة على تنظيم الاختلاف، وجعل التعددية منارة لا تهديدًا، من أجل صون القيم التي تتلاشى من عالمنا: الحقيقة، الجمال، والخير.

لقد كان الهلال الخصيب حاملًا لهذه القيم في أزمنة ما قبل الحداثة، ولبنان هو من يُعيد توجيه هذه الرسالة نحو المستقبل.

فلنعد صياغة الخطابات المستهلكة والاستراتيجيات المتآكلة.

لبنان ليس "مشكلة عبثية في الشرق الأوسط"، بل هو المنصة التي يمكن منها إطلاق ممارسة جديدة للسلام، والتعددية، والازدهار.

سلامٌ لا يعني الجمود، بل التناغم الديناميكي.

وتعدديةٌ لا تشرذم، بل تفاعل متناغم.

وازدهارٌ لا يُقاس بالناتج المحلي فقط، بل بالقيم الحضارية التي تستحضر فضائل الإنسانية.

هذا هو رهان كومنولث الهلال الخصيب الجديد:

لا عودة لإمبراطوريات، ولا فرض لفيدراليات، بل كوكبة من السيادات المتشاركة، المؤسّسة على إرثٍ مشترك، والمُفعّلة برؤية فلسفية للتكوّن المتبادل.

ولبنان ليس مجرد مشارك في هذه الكوكبة، بل هو نواتها المفهومية ومحرك إبداعها.

لسنا فقط مدعوين للاستماع، بل نحن مدعوّون، بشهادة الزمن، للمشاركة في صنع هذا التجدد.

انطلاقًا من لبنان... ووصولًا إلى آفاقنا جميعًا".

يشار إلى أن البروفيسور نادر البزري صديق للشيخ بهاء الحريري ومن أركانه منذ أكثر من 55 عاماً، وتربطهما علاقات قوية ويعتبر من أكثر المقربين له ومن الداعمين الحقيقيين لمشروعه الإصلاحي في لبنان.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa