11:33AM
على الجهة الغربية من بيروت القديمة، بمحاذاة البحر، تمتد منطقة «رأس بيرو، التي كانت تُعرف قديما بـ«مزرعة رأس بيروت» لطابعها الزراعي، قبل أن تتحوّل إلى حي عمراني مزدهر. وكانت تُختصر تسميتها بـ«الرأس» أو «رأس المدينة» نظرا إلى موقعها الذي يشبه الرأس الممتد في البحر.
وننقل عن المؤرخ المحامي عبد اللطيف الفاخوري أنّه عندما تولّى عبد الخالق نصوحي بك متصرفية بيروت عام 1886، وجد ضرورة تحسين طرقها، فمدّ الطريق من البحر مرورا بـ«خان أنطون بك، ميناء الحسن، رأس بيروت، الفنار» (المنارة)، وصولًا إلى «شوران»، كما شقّ طريقا من أمام الجامعة الأميركية إلى قرب (الفنار)، وفتح طريقا يصل ساحل البحر إلى منطقتي «بيت قريطم» و«بيت طبارة» في أعالي «شوران»، أي منطقة «قريطم» اليوم.
و«رأس بيروت» منطقة واسعة إداريا وجغرافيا، تضم محلات وأحياء عديدة، ومنها «قريطم». وقد كانت تُسمّى قديما «جل النخل»، والـ«جل» هو قطعة أرض مدرّجة تمنع انجراف التربة.
ومع تحوّل هذه الأرض إلى حي سكني راقٍ شُيّدت فيه البيوت والقصور (مثل قصر دياب وقصر صالحة)، برزت الحاجة إلى بناء مسجد. فبادر الحاج مصباح قريطم عام 1909 (1318 هـ) إلى بناء جامع باسمه، على أرض أوقفها الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الحوت بموجب وقفية مسجّلة في محكمة بيروت الشرعية. ومنذ ذلك الحين، عُرفت المنطقة باسم «قريطم» تكريما له، قبل أن تعتمد بلدية بيروت التسمية رسميا.
وحين قرّر الرئيس الشهيد رفيق الحريري، (قبل دخوله المعترك السياسي)، أن يتخذ له مسكنا في بيروت، اختار رأس بيروت عن وعي وقصد. كانت بالنسبة إليه رمزا للتنوّع الاجتماعي والتعايش، وصورة مصغّرة للبنان الذي كان يحلم بإعادة إحيائه. كما كانت العاصمة الثقافية للمدينة، بما تضمّه من جامعات ومدارس ومراكز علمية، وهو ما كان يعني له الكثير لإيمانه بأن التنمية تنطلق من المعرفة والتعليم.
وعندما عرضت عائلة صالحة بيع قصرها في «قريطم»، قرّر شراؤه ليكون مقر إقامته في بيروت. ربما لم يكن يدور في خلده حينها أن هذا القصر سيتحوّل إلى معلم سياسي وتاريخي، شاهداً على أخطر المراحل وأهمها في تاريخ لبنان الحديث، حيث وضعت فيه الخطط لإعادة إعمار البلد، ولإطلاق مسيرة السلم بعد حرب طويلة.
بعد تكليفه عام 1992 بتشكيل حكومة الإنقاذ والإعمار، حرص على أن تكون إقامته في هذا القصر بالذات، رغم امتلاكه بيوتاً تاريخية أخرى في العاصمة. ولشدّة تقديره لأهل المنطقة، أبقى على اسم «قريطم» منسوبا إليها، ما دفع وفدا من عائلة قريطم إلى زيارته لشكره على هذه المبادرة.
ومنذ ذلك التاريخ، باتت دارة الرئيس الشهيد ذات رمزية خاصة عند كل اللبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق والفئات، سواء السياسيين أو الناس العاديين.
فمع دخول الرئيس الشهيد رفيق الحريري الحياة السياسية اليومية، تحوّلت دارته الى مقر مركزي للقرارات الوطنية اللبنانية على الصعد كافة، وقبلة السياسيين ووجهتهم، ليكونوا على بيّنة من المشروع الوطني الإنقاذي الشامل للرئيس الحريري، الذي شرّع منذ وصوله إلى الرئاسة الثالثة بديناميته وإندفاعيته، مسابقا الوقت والزمن (دون أن يتمكن أحد من اللحاق به) إلى إطلاق أكبر ورشة سياسية واقتصادية ومالية وإعمارية وإنمائية، لإعادة بناء ما تهدّم، وإعادة لبنان إلى دوره الريادي في المنطقة على الصعد كافة، وإستعادة ثقة العالم به، موظّفاً كل طاقاته وخبراته وعلاقاته وما يتمتّع به من ثقة وتقدير عربي وعالمي، لتحقيق مشروعه الوطني المتكامل، بهدف إعادة ترسيخ السلم الأهلي والوحدة الوطنية والاستقرار الإجتماعي والنهوض الاقتصادي، من خلال محو كل آثار الحرب، ومعاودة البناء على أسس ومرتكزات حديثة ومتطورة، تواكب حركة العصر، وإستعادة لبنان تصنيفه كواحد من البلدان المتقدمة في المنطقة، حيث كانت «دارة قريطم» شاهدة على تلك المرحلة التاريخية، الذي أسّست للبنان الجديد...
أما على الصعيد الشعبي، كانت أبواب «دار قريطم» مفتوحة أمام عموم الناس، الذي يرونه فيها ملجأهم وملاذهم.
بُنيت بين الدار والناس البسطاء الطيبين علاقة حميمة، كل شخص كان يعتبر نفسه في بيته وسط عائلته، يشعر بالإرتياح والإنسجام، وكأنه بيت يتسع لكل الناس، بل هو كان كذلك فعلياً، بيتاً للأمة.
الغرف والقاعات والمكاتب، وحتى الحديقة والممرات، كانت دوماً تعجّ بالناس، دبلوماسيين، سياسيين، وزراء، نواب، مدراء عامين، إعلاميين، مستشارين، وحتى «كتبة تقارير» بأقنعة أليفة.
ووسط الازدحام الرسمي، كانت عامة الناس تملأ المكان، حيث كانت بالنسبة «لدولته» الروح التي تنشر الحياة في أرجائه، كيف لا؟ وهم بالنسبة له النبض الشعبي الصادق، الذي يستمدّ منه رؤيته العملاقة من أفكارهم المتواضع المفعمة بالأنسنة. كان يستمع ويصغي إليهم بإحترام، يتقبّل النقد بكل رحابة صدر وإبتسامة، يستمتع بالحديث معهم، يحاورهم، يقنعهم ويقنعوه، يمازحهم، ويقهقه عالياً عندما يروي أحدهم له «نكتة» (حتى ولو كانت تطاله)...
بقيت دارة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في «قريطم» حتى إغتياله، هي الوجهة وهي المقصد، حيث كان في رحابها ترسم معالم حقبة سياسية نوعية من تاريخ لبنان الحديث، لنقله من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم، حتى تحوّلت بفضل صاحبها «الظاهرة الإستثنائية» إلى أكثر من حيز مكاني، شكّل نبض الوطن الذي أعيد إحيائه، بعدما في حالة من الموت السريري، فشكّلت معلماً وصرحاً ورمزاً وطنياً لبنانياً، يختزن ويختزل حقبة مفصلية كاملة من تاريخ لبنان.
وبدلاً من الإبقاء على هذه الدار المباركة، بما تحمله من رمزية وطنية ومعنوية ومرجعية مشعّة، إحياءً لذكرى صاحبها، ومحافظة على الإرث الوطني العظيم لرجل إستثنائي، أعاد للبنان مكانته على الخارطة العالمية، فإنه من بات من المؤكد أن أرملته السيدة نازك (عودة) الحريري على وشك بيعه، ضاربة بعرض الحائط مشاعر وجوارح اللبنانيين مع هذه الدار، متعاملة معها كمجرد عقار للبيع، متناسية أنها بما ترمز إليه وما شهدته، هي ملك للناس الأوفياء والمخلصين لزوجها الرئيس الشهيد(!) الأمر جعل الحزن والأسى والأسف يخيّم ويضرب عميقاً في نفوس ووجدان كل من عاش زمنه وعصره، وعاصروه!!!
إن هذا الأمر يثير الأسى في نفوس كل من أحب رفيق الحريري وآمن بمشروعه الوطني. لذلك، لا بد من وقفة وطنية وأخلاقية صادقة، للحؤول دون بيع هذه الدارة، والعمل على تحويلها إلى متحف وطني، أو منتدى ثقافي وفكري وسياسي، يخلّد ذكرى رفيق الحريري، ويُعرّف الأجيال المقبلة برؤيته ومشروعه الوطني.
دارة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، في ذاكرة ووجدان الناس، ليست مجرد المكان الذي بنى فيه رفيق الحريري «إمبراطوريته» السياسية، ومنه أعاد بناء لبنان وطنياً واقتصادياً وإعمارياً، لتختزن وتختزل حقبة إستثنائية من تاريخ لبنان، بل هي قبل ذلك كله، بالنسبة لهم قلباً كبيراً إسمه رفيق الحريري، كان يتّسع لهم جميعاً...
المصدر : اللواء
شارك هذا الخبر
بالفيديو: نقيب موظفي alfa w touch يهدد بالعودة إلى الإضراب ويطالب بتجديد عقد العمل
بالفيديو: استهداف سيارة جنوباً
هجوم روسي على أوديسا يترك إصابات
ترامب: من الصعب التعامل مع كندا
راغدة مفقودة وقوى الأمن تطلب المساعدة
لقاء جمع سلام وقائد الجيش
في باكستان: مقتل 13 جندياً في هجوم انتحاري على حدود أفغانستان
لبنان على السكة مجددًا... ورجّي يدعو لاحترام السيادة والتعاون
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa