02:33PM
بقلم رالف يونس
ليس من المبالغة القول إن لبنان بات يُؤكَل من أطرافه. لا حرب أُعلنت، ولا اتفاق تقسيم وُقِّع، لكن الخريطة تتقلص، والدولة تتقهقر، والكيان يتحلّل على مهل. ففي ظلّ الانهيار المؤسساتي، والتلكّؤ الإصلاحي، والتغاضي المزمن عن السلاح غير الشرعي، تتوالى المشاهد على نحو لم يعد يحتمل القراءة العاطفية أو الوطنية التقليدية، بل يستوجب تسمية الأشياء بأسمائها: لبنان يُعاد ترسيمه، لا كما يريده أبناؤه، بل كما تشتهيه القوى الطامعة به، كلٌّ من موقعه، وحدوده، ومشروعه.
على الجبهة الجنوبية، لا تكتفي إسرائيل بإبقاء التوتر مشتعلاً مع حزب الله، بل تراكم خطواتها بصبرٍ استراتيجي، بانتظار لحظة مواتية لضمّ ما دون الليطاني إلى حسابات أمنها القومي، وربما إلى خريطة "إسرائيل الكبرى" التي لطالما رُسمت في الظل، ولم تُمحَ يومًا من خيال المؤسسة الصهيونية. الجنوب، الذي كان دومًا بوابة الكرامة، بات مسرحًا مفتوحًا لتصفية الحسابات الإقليمية، فيما الدولة اللبنانية تتفرّج، عاجزة عن أن تكون مرجعًا أو ملاذًا لأبنائها، وكأنها انسحبت طوعًا من المعادلة.
في الشمال، تعود شهية دمشق إلى الظهور، لكنها ليست دمشق الأسد التي عرفناها أو واجهناها، بل دمشق أحمد الشرع، الحاكم الفعلي لسوريا بعقلية سلفية داعشية، تتلحّف خطاب "الوحدة التاريخية"، وتُضمر أجندة ضمّ طرابلس والشمال إلى خارطة بلاد الشام المُجدَّدة. المشروع لم يمت، بل يُعاد إحياؤه بهدوء ودراية، مستغلًّا هشاشة الشمال اللبناني، وفقره، وتهميشه، وغياب أي رؤية وطنية لاحتضانه.
أما البقاع والجنوب الداخلي، فهما واقع لا يحتاج إلى كثير من الشرح. هناك، حيث يمسك الفصيل اللبناني الموالي لإيران بزمام السلطة المحلية، يُفرَض منطق السلاح كأمر واقع، وتُدار الحياة وفق إيقاع إقليمي لا يمتّ بصلة إلى مصلحة لبنان. باسم المقاومة، وبذريعة التوازن، يُدار بلدٌ بأكمله كملحقٍ بمشروع ولاية الفقيه، فيما الدولة المركزية لا تملك من أمرها شيئًا.
وسط هذا المشهد، تنهار السيادة اللبنانية من دون أن يُرفع عَلَمٌ غريب على السارية. فالإنهاك لم يعد اقتصاديًا فحسب، بل سياديًا وأخلاقيًا أيضًا، إذ تتكاثر المساحات الخارجة عن سلطة الدولة، ومعها يتآكل مفهوم الوطن. ما تبقّى اليوم من الكيان الفعلي لا يتجاوز رقعة ضيّقة تمتدّ من بيروت حتى البترون، مرورًا بجبل لبنان وأجزاء من زحلة. رقعة بالكاد تصل إلى ٤٤٥٢ كلم²، ليست مجرّد جغرافيا محصورة، بل تعبير موجع عن مدى التآكل والانكفاء والانحلال.
الخطر الحقيقي لا يكمن في الأطماع الخارجية وحدها، بل في الداخل الذي استقال من مسؤوليته. حين تصبح المؤسسات في إضراب دائم، والإدارات لا تعمل إلا نصف نهار أو لا تعمل على الإطلاق، والوزارات تُقفل في وجه المواطنين، والمعاملات تتكدّس في دهاليز البيروقراطية العفنة، والبلديات تُدار بالمحسوبيات، والتعليم يتداعى، والصحة تنهار، والخدمات تُوزَّع على قاعدة الولاء، يصبح الوطن قابلاً للقضم من الخارج لأن الداخل أهمله، بل تخلّى عنه.
لا حاجة إذًا إلى سايكس بيكو جديد، ولا إلى مؤتمر طائف ثانٍ، ولا إلى طاولة تقسيم. فالانهيار جارٍ، والتقسيم فعلي، يأخذ شكل جمهوريات أمر واقع تتنازع السلطة على الأرض، وتعيش على فتات مؤسسات منهارة. الاحتلالات الجديدة لا تحتاج إلى دبابات، بل إلى أزمات متلاحقة، إلى جوع، إلى خوف، إلى انفصام وطني، وانقسام أهلي، تشرّعه خطابات الخلاص المذهبي، والمناطقي، والولائي.
إن التغاضي عن هذا المسار الكارثي، أو محاولة تغليفه بشعارات مستهلكة عن "التعايش" و"الصمود" و"المسار الدبلوماسي"، لن يغيّر شيئًا، بل يمنح تلك المشاريع مزيدًا من الوقت لتكريس أمر واقع يصعب تصحيحه لاحقًا. النتيجة لن تكون فقط سقوط الدولة، بل تفكّك الوطن إلى كيانات مشوّهة، لا يجمع بينها سوى الذكرى… وربما الندم.
نحن في لحظة القرار المصيري. إما أن تبسط الدولة سيادتها على كامل أراضيها، ويُسحب السلاح غير الشرعي بجرأة، ووطنية، ومسؤولية، وتُطلق ورشة إصلاح حقيقية لا تجميلية، أو نتحوّل رسميًا إلى جمهوريات ثلاث: جمهورية الجنوب المعلّقة بين الحرب والهدنة، جمهورية الشمال المعلّقة على ذاكرة الانتداب السوري، وجمهورية الوسط التي تسعى للبقاء حيّة تحت رماد الانهيار.
٤٤٥٢ كلم²، هذا ما تبقّى من الحلم اللبناني. رقعة هشّة، محاصرة، تُقاتل للبقاء في زمنٍ يُنهش فيه الوطن من الجهات الأربع.
فهل بقي من يسمع؟ وهل من يتحرّك قبل أن تُرفع الحدود الجديدة على أنقاض وطنٍ كان، ذات يوم، رسالة؟
شارك هذا الخبر
إنقسام درزي حول اتفاق السويداء: جربوع يعلن وقف العمليات... والهجري يرفض
الطيران الحربي الإسرائيلي يُحلق في أجواء الجنوب
غارات فوق وزارة الدفاع السورية... حصيلة أولية: ضحية و18 مصابًا
جنبلاط: لا علاقة لتدمير وزارة الدفاع بحماية أحد... والمصالحة في السويداء ضرورة
بالفيديو: على وقع التصعيد في سوريا... شبان يقطعون طريق ضهر البيدر
بعد ضغوط أمنية حازمة... تسليم جميع المتورطين بالاستعراض المسلح
"سانا" عن مصدر بوزارة الداخلية السورية: التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في السويداء ونشر حواجز أمنية واندماجها في الدولة
تفاديًا لسفك الدماء... إتصالات مكثفة يقودها التقدمي لوقف إطلاق النار
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa