جنوب لبنان... بين الركام والخوف والنزوح المستمر

07:32AM

كتبت جوانا صابر في نداء الوطن:


لم يخرج الجنوب اللبناني من الحرب الأخيرة كما دخلها. الدمار الواسع الذي خلّفته الغارات الإسرائيلية طال البيوت والمزارع والطرقات وحتى المدارس والمستشفيات. لكن ما هو أعمق من الحجارة المهدّمة هو الشرخ النفسي والاجتماعي الذي أصاب مجتمعًا اعتاد مرارًا على إعادة بناء نفسه، لكنه لم يعتد يومًا على العيش في طمأنينة مستمرّة.

في القرى الحدودية، بيوت تحوّلت إلى ركام خلال دقائق، فيما لا تزال لعب الأطفال متناثرة بين الجدران المهدّمة. في الحقول، أشجار الزيتون التي احتاجت عشرات السنين لتنمو احترقت في ساعات، تاركة خلفها أرضًا جرداء ورائحة رماد. المشهد في الجنوب ليس مجرّد خراب عمرانيّ، بل هو جرح في الذاكرة الجماعية، يضاف إلى سلسلة جروح سابقة.

تاريخيًا، كان الجنوب دائمًا ميدان إعادة الإعمار: من حرب 1982 إلى عدوان 2006 وصولًا إلى الجولة الأخيرة. كلّ مرة تُطلق الوعود وتُفتح دفاتر التعويضات، لكن التنفيذ غالبًا ما يتأخر أو يُسيّس. اليوم، تبدو عملية إعادة الإعمار أكثر تعقيدًا بفعل الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد منذ سنوات، وبفعل تراجع قدرة الدولة ومحدودية دعم المجتمع الدولي. النتيجة: آلاف العائلات ما زالت مشرّدة بين مدارس ومنازل أقارب، أو حتى خارج الجنوب.

ما يعقد المشهد أكثر هو أن الجنوبيين لا يرون في إعادة الإعمار ضمانة حقيقية. فالتجارب السابقة علّمتهم أن البيوت قد تنهار من جديد، وأن الحقول قد تُحرق ثانية. هذا الخوف الدائم لا يعيش في الذاكرة فقط، بل في تفاصيل الحياة اليوميّة: حين يتردّد الأهل في إرسال أولادهم إلى مدارس قريبة من الحدود، أو حين يمتنع المزارع عن استثمار أرضه خشية أن تتحوّل بين ليلة وضحاها إلى ساحة اشتباك.

الحرب الأخيرة فتحت أيضًا ملفًا قديمًا متجدّدًا: التهجير. عشرات القرى الجنوبية نزح أهلها إلى بيروت أو صيدا أو حتى إلى خارج لبنان. بعضهم قد يعود مع الوقت، لكن كثيرين بدأوا بالفعل رحلة البحث عن حياة جديدة بعيدًا من "منطقة الخطر". هذا النزوح المتكرّر يُهدّد النسيج الاجتماعيّ، ويُعيد رسم خريطة الديموغرافيا في الجنوب بشكل غير مسبوق منذ عقود، خصوصًا أن جيل الشباب يرى في الغربة خلاصًا من الحرب المستمرّة، أكثر ممّا يراها مغامرة اقتصادية.

في المقابل، لا يمكن اختصار الجنوب في مشهد الانكسار وحده. فهناك صلابة تظهرها نساء يحاولن إعادة الحياة إلى البيوت المهدّمة، مزارعون يزرعون رغم الخسائر، وشباب يعملون في المبادرات المحلّية لتعويض غياب الدولة. هذه الإرادة الصلبة بالتمسّك بالأرض والهوية، تقف وجهًا لوجه أمام قلق عميق من أن تتحوّل الدورة الجهنمية": حرب، دمار، إعمار، ثمّ حرب جديدة، إلى قدر محتوم.

يعيش الجنوب على الحافة: بين حبّ الأرض وخوف الغد، بين ذاكرة الدم وحنين السلام، وبين صلابة الصمود ومرارة النزوح. واللبنانيون أمام سؤال قديم جديد: هل يمكن أن يُكتب لهذا الجنوب مستقبل مختلف، أم أنه سيظلّ ساحة مفتوحة لحروب الآخرين؟

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa