إفلاس المصارف "مؤامرة" خطيرة تسحق المودعين وتتلطى بعناوين الإصلاح.. لماذا لا يستثمر ذهب لبنان؟

08:15PM

في الكواليس المالية والسياسية، يتنامى استغراب واسع، بل غضب متصاعد، من التنسيق المستمر وغير المعلن بين رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة وعدد من الوزراء الأساسيين في حكومة نواف سلام، وفي مقدّمهم وزير الاقتصاد، حول ما يُسوَّق له على أنه “حلّ” لمشروع قانون الفجوة المالية. لكن ما يجري فعلياً لا يمكن توصيفه كحل، بل كمخطط منظّم لإعفاء الدولة من مسؤولياتها التاريخية، وتحميل كلفة الانهيار للجهة الأضعف: المودعين.

الخطة المتداولة تقوم، وفق المعطيات، على تحميل الدولة ما بين 10 و15 في المئة فقط من الخسائر، بذريعة عدم رفع الضرائب أو عدم بيع ممتلكات الدولة، مع الاحتماء بموقف صندوق النقد الدولي. إلا أن هذا الخطاب ليس سوى غطاء سياسي. فالصندوق، كما بات معلوماً، ليس جهة محايدة في الحالة اللبنانية، ومقاربته تخضع لمناخ ضغط سياسي دولي يفضّل “استقراراً شكلياً” على عدالة مالية حقيقية، حتى ولو كان الثمن إعفاء الدولة من القسم الأكبر من المسؤولية.

في المقابل، تُلقى الخسائر على عاتق المودعين بنسبة تقارب 40 في المئة، وعلى المصارف بنحو 50 في المئة. وهذه معادلة لا تؤدي إلى إصلاح، بل إلى تفجير شامل للقطاع المالي: مصارف مفلسة، مودعون مفلسون، واقتصاد يُدفع عمداً نحو الانكماش الكامل. فإفلاس المصارف لا يعني إسقاط مؤسسات مالية فحسب، بل إسقاط الودائع نفسها، وضرب أي إمكانية لعودة الثقة أو إعادة بناء النظام المصرفي.

الأخطر في هذا المسار أنه لا يأتي من فراغ، بل يعيد إحياء نظرية قديمة – جديدة، سبق أن قادها اللواء جميل السيد خلال حكومة حسان دياب، وقوامها تحميل المصارف كامل المسؤولية، مقابل “حماية الدولة”. يومها رُوِّج لهذا الطرح على أنه ثوري وشعبوي، لكنه في جوهره كان عملية تبييض سياسي شاملة للدولة ومن يقف خلفها. وما نشهده اليوم ليس إلا استكمالاً لهذا الخط نفسه، ولكن بوجوه مختلفة وخطاب أكثر “تكنوقراطياً”.

وعندما يُقال “حماية الدولة”، يجب أن يُقال بوضوح عمّن نتحدث. نحن لا نتحدث عن حماية كيان مجرّد أو مؤسسات محايدة، بل عن حماية القوى السياسية نفسها التي شاركت في الفساد، وشاركت في النهم العام، واستفادت من المال العام ومن ودائع الناس، ثم تهربت من المحاسبة. فبدل ملاحقة هذه القوى واسترداد الأموال المنهوبة، يجري تحميل الفاتورة للمودعين والمصارف، في واحدة من أكبر عمليات قلب الحقائق في تاريخ لبنان المالي.

هذا المسار يُحضَّر له أيضاً كوقود لحملات شعبوية قبل الانتخابات النيابية. سيخرج نواب، بعضهم في السلطة، لمهاجمة المصارف وتحميلها وحدها المسؤولية، في محاولة مكشوفة لتبرئة الدولة من جرمها الأساسي. وسيُرفع شعار “المصارف فاسدة” تمهيداً لطرح فكرة إفلاسها واستبدالها بـ“مصارف جديدة” أو “مصارف خامسة” تأتي من الخارج، كما لو أن المشكلة في الأسماء لا في السياسات، وكأن إفلاس المصارف سيمحو تاريخ الهدر والسرقة.

هذه مقاربة تضليلية وخطيرة. فالدولة اللبنانية هي المسؤول الأول والمباشر عن تبديد أموال المودعين. هي التي أنفقت المليارات عبر الموازنات العامة على مدى سنوات، وهي التي فرضت على مصرف لبنان استخدام ودائع الناس لتمويل عجزها، وهي التي راكمت الدين ثم تنصّلت من تبعاته. وحتى ما تبقى اليوم في مصرف لبنان، ومنه نحو ثمانية مليارات دولار، هو بمعظمه احتياطي إلزامي عائد للمصارف، أي عملياً أموال مودعين. إسقاط المصارف يعني إسقاط هذه الأموال نهائياً.

والأكثر خطورة أن هذا المسار سيُسجَّل سياسياً في عهد رئيس الجمهورية جوزيف عون كعهد السقوط الكامل للودائع. سيكون ذلك فشلاً مدوّياً للعهد الجديد، وضربة قاصمة لأي أمل بإعادة بناء الثقة داخلياً أو خارجياً.

ما يثير الريبة أكثر أن البدائل موجودة، لكن يجري تجاهلها عمداً. هناك إصلاح إداري حقيقي يمكن أن يحدّ من النزف. هناك أموال فساد يمكن استردادها إذا توفرت الإرادة السياسية. هناك إمكانية لتحويل نشاط الدولة من عبء إلى نشاط استثماري منتج. والأهم، هناك ملف الذهب في مصرف لبنان، الذي تضاعفت قيمته نحو ست مرات من دون أي جهد من الدولة، في وقت تآكلت فيه الودائع وارتفعت الديون.

يجمع خبراء كثر على أن الإنقاذ الحقيقي يمرّ عبر تحريك الذهب واستثماره ضمن آليات مدروسة، لا بيعه عشوائياً، بل استخدامه كرافعة مالية لإعادة جزء أساسي من حقوق المودعين وتحريك الاقتصاد. فالاستثمار في الذهب، إلى جانب توسيع القاعدة الاقتصادية، يمكن أن يولّد إيرادات ضريبية ورسوم للدولة، ويخلق مساراً بديلاً لسد الفجوة المالية من دون تدمير القطاع المصرفي.

أما الذهاب إلى إفلاس المصارف، فلن يؤدي إلا إلى نتيجتين كارثيتين: أولاً، ضياع نهائي لحقوق المودعين، القدامى والجدد على السواء، بما فيهم أصحاب ما يُسمّى “الفريش ماني”. وثانياً، ضرب كل محاولات تنظيم القطاع المالي، وفتح الباب أمام تضخّم الكتلة النقدية في السوق السوداء، وتوسّع تبييض الأموال، وتعاظم نفوذ الميليشيات والمافيات، والتهرّب الضريبي.

الحديث عن استبدال المصارف القائمة بمصارف جديدة لا يحل المشكلة، بل يخلق مشكلة أعمق: انعدام الثقة الشامل. فالمودع الذي سُلبت أمواله مرة لن يضعها مجدداً في أي مصرف، مهما تغيّر اسمه أو جنسيته. والمصارف الجديدة، إن أتت، ستجد نفسها عاجزة في بيئة مفلسة، فتفشل بدورها.

ما يجري اليوم ليس خطة إنقاذ، بل مقامرة بمصير الناس والاقتصاد. هي خطة عشوائية، تُحيي نظريات فاشلة، وتحمي منظومة سياسية متورطة، وتدمّر ما تبقى من قطاع مصرفي كان، رغم كل عيوبه، أحد أعمدة نهضة لبنان. والاستمرار في هذا المسار يعني شيئاً واحداً: تعميم الإفلاس، وتكريس الفوضى، ودفن أي أمل بقيام دولة عادلة تحاسب الفاسدين بدل أن تحميهم.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa