05:25PM
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم العربي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لم يعد مفهوم المسؤولية الاجتماعية مسألة ثانوية أو نشاطًا مكمّلًا لعمل المؤسسات، بل بات عنصرًا أساسيًا في قياس جديتها، واستدامتها، ودورها الحقيقي في خدمة المجتمع. غير أن هذا المفهوم، على الرغم من حضوره المتزايد في الخطاب العام، ظل لفترة طويلة يعاني من غياب الإطار الموحد، وصعوبة القياس، وتشتّت الممارسات بين مبادرات فردية وجهود غير مترابطة.
لقد شهدت المنطقة العربية خلال السنوات الماضية توسعًا ملحوظًا في الأنشطة المرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية، سواء من قبل الشركات أو المنظمات غير الربحية، إلا أن هذا التوسع لم يكن دائمًا مقرونًا بأدوات واضحة تتيح تقييم الأثر الفعلي لهذه الأنشطة. وفي كثير من الحالات، بقيت الجهود محصورة في إطار العمل الموسمي أو الرمزي، من دون مرجع مشترك يسمح بالمقارنة، أو ببناء الثقة، أو بتطوير الأداء على أسس علمية.
انطلاقًا من هذا الواقع، جاءت مبادرة مؤسسة محمد شعيب الإنسانية – معيش بريادة الدكتورة نادية شعيب رئيستها, بالشراكة مع الاتحاد العربي للغرف التجارية, بريادة سعادة الوزير الدكتور خالد حنفي الامين العام, لإطلاق المؤشر العربي للمسؤولية الاجتماعية، كمبادرة لبنانية المنشأ، عربية التوجه، تسعى إلى إعادة تنظيم مفهوم المسؤولية الاجتماعية في العالم العربي ضمن إطار علمي وعملي موحّد، قابل للقياس والتحقق، ويعكس خصوصية المنطقة وتنوّعها. وشكلت المؤسسة والاتحاد فريق عمل متقن من لبنان ومصر وفرنسا وانكلترا والمانيا, يضم خبراء اقتصاد واجتماع ومعلوماتية وذكاء اصطناعي وتطور ضمن المعايير والممارسات الدولية الاعلى مع اخذ رؤية اولويات المنطقة ورؤية 2030 لكل بلد عربي على حدى ثم كمجموعة شاملة متكاملة. وقد عرض المؤشر على جامعة الدول العربية لتي عرضته على كل الاعضاء وبعد الاخذ بعين الاعتبار ملاحظات الدول الاعضاء في مجلس وزراء الشؤون الاجتماعية وعلى ذلك تم اعتماده عربيا في الورة الخامسة والاربعين لمجلس وزراء التنمية الاجتماعية في جامعة الدول العربية في اجتماعها في عمان منتصف ديسمبر 2015.
المؤشر العربي للمسؤولية الاجتماعية هو نظام تقييم شامل يهدف إلى تطوير الطريقة التي تقيس بها الشركات والمؤسسات غير الربحية أداءها في مجالات البيئة، والمجتمع، والحوكمة داخل المنطقة العربية. وهو يعتمد مقياسًا رقميًا واضحًا بدرجة نهائية تتراوح بين صفر ومئة، بما يسمح بفهم مستوى الأداء المؤسسي، ومقارنته، وتتبع تطوره عبر الزمن، ضمن مرجع عربي واحد.
وقد صُمّم هذا المؤشر ليكون إطارًا موحدًا يعالج مشكلة تجزئة ممارسات المسؤولية الاجتماعية، ويوفّر لغة مشتركة تربط بين العمل الخيري، والتنمية، والاستدامة، وتساعد على تحويل المبادرات المتفرقة إلى أثر قابل للقياس والتحقق. كما يهدف إلى تعزيز الثقة بين المؤسسات والمجتمع، وبين القطاعين العام والخاص، من خلال بيانات موثوقة ومعايير واضحة.
ويعتمد المؤشر على منهجية دقيقة تبدأ بتصنيف المؤسسات وفق طبيعتها وحجمها، سواء كانت منظمات صغيرة أو كبيرة، شركات، مؤسسات صغيرة أو متوسطة، أو منظمات غير ربحية. وبعد هذا التصنيف، تخضع كل فئة لاستبيان مخصص يغطي ما بين عشرة إلى اثني عشر محورًا، تشمل الجوانب البيئية والاجتماعية والحوكمية، إضافة إلى مجموعة أسئلة تعكس الأولويات الوطنية الخاصة بكل دولة، بما يضمن مراعاة الخصوصيات المحلية ضمن إطار عربي جامع.
ويقوم نظام التقييم على توزيع متوازن للنقاط، حيث تُخصَّص ستون نقطة للاستبيان المنهجي، وأربعون نقطة للتبرعات والأنشطة التطوعية التي يتم التحقق منها فعليًا. ولا تُحتسب هذه الأنشطة إلا بعد مراجعة الأدلة والمستندات، في خطوة تهدف إلى ضمان صدقية البيانات وجودتها، ومنع الاكتفاء بالتصريحات غير المدعومة بالوقائع.
ولا يقتصر دور المؤشر على إصدار درجة رقمية، بل يقدّم قراءة تحليلية شاملة للفجوات، تساعد المؤسسات على فهم موقعها الحالي، وتحديد مكامن الضعف، وبناء مسار تطوير عملي ومباشر لرفع مستوى نضجها في مجال المسؤولية الاجتماعية. وبهذا المعنى، يتحوّل المؤشر من أداة تقييم إلى أداة نضج مؤسسي وتخطيط استراتيجي.
وقد حرصت مؤسسة محمد شعيب الإنسانية – معيش والاتحاد العربي للغرف التجارية على أن يكون المؤشر منسجمًا مع الأطر الدولية المعتمدة، ولا سيما أهداف التنمية المستدامة، من دون أن يفقد ارتباطه بالسياق العربي فهو يربط ممارسات المؤسسات بالرؤى الوطنية للتنمية، ويعزز مواءمتها مع أولويات الدول العربية، بما يرسّخ دور المؤسسات كشريك فعلي في تحقيق التنمية المستدامة.
وفي إطار تثبيت البعد العربي للمبادرة، جرى تنظيم التعاون مع اتحاد الغرف العربية ضمن اتفاقية واضحة المعالم تحدد نطاق الشراكة بدقة. وتقتصر هذه الاتفاقية حصريًا على خدمة تقييم المسؤولية الاجتماعية (Arab CSR Score)، ولمدة تشغيل متواصلة تمتد لثلاث سنوات قابلة للتجديد، مع تحديد المعايير التشغيلية والتنظيمية والمسؤوليات، بما يضمن استمرارية المنصة وجودة الأداء.
ويؤكد هذا الإطار التنظيمي أن المبادرة، من حيث الرؤية والمنهجية والملكية الفكرية، تبقى منطلقة من الجهة المبادِرة، فيما يندرج التعاون العربي في سياق دعم الانتشار والاعتماد المؤسسي، دون أي مساس باستقلالية المؤشر أو مرجعيته العلمية.
ويتيح المؤشر للمؤسسات المشاركة فوائد استراتيجية متعددة، من أبرزها تعزيز المصداقية والثقة، وتحسين الصورة المؤسسية على أسس واقعية، وربط المبادرات الاجتماعية بالأهداف الوطنية والعالمية، إضافة إلى جذب الشراكات والاستثمارات التي باتت تشترط التزامًا واضحًا بالحوكمة والممارسات الأخلاقية والاستدامة
إن المؤشر يتجاوز كونه أداة قياس صماء، ليصبح محفزاً لمنظومة التميز والابتكار الاجتماعي.
فمن خلال الدرجة الرقمية الموحدة، يخلق المؤشر نوعاً من 'التنافسية الأخلاقية' بين المؤسسات، حيث تسعى كل جهة ليس فقط لتحسين ترتيبها، بل لابتكار حلول مستدامة ترفع من جودة أثرها المجتمعي.
هذا التنافس الصحي يساهم في رفع السقف المعياري للممارسات في العالم العربي، وينقلها من مرحلة الامتثال للحد الأدنى، إلى مرحلة الريادة والابتكار في العطاء.
كما يولي المؤشر أهمية قصوى لبناء القدرات داخل المؤسسات؛ فالانخراط في عملية التقييم يمثل بحد ذاته رحلة تعليمية للفرق الإدارية، حيث يتعرفون من خلال محاور المؤشر على أفضل الممارسات العالمية والمعايير الحديثة للحوكمة والبيئة. وبذلك، يسهم المؤشر في خلق جيل من المهنيين العرب المتخصصين في الاستدامة، قادرين على قيادة التحول داخل مؤسساتهم وفق رؤية علمية ومنهجية واضحة.
كما يوفّر المؤشر لغة مشتركة للحوار بين المؤسسات والجهات المعنية، ويسهم في رفع مستوى الشفافية، ويعزز قدرة المؤسسات العربية على الانتقال من العمل المتفرق إلى التخطيط المنهجي، ومن المبادرات الموسمية إلى الاستدامة طويلة الأمد.
إن إطلاق المؤشر العربي للمسؤولية الاجتماعية من لبنان، عبر مؤسسة محمد شعيب الإنسانية – معيش، لا يشكّل مجرد حدث تقني أو إداري، بل يعكس تحوّلًا فكريًا في مقاربة المسؤولية الاجتماعية في العالم العربي. فهو ينقل هذا المفهوم من مساحة النوايا الحسنة إلى فضاء القياس والمساءلة، ومن الخطاب إلى الأثر، ومن المبادرات الفردية إلى الإطار المؤسسي المنظم.
ويؤكد هذا المسار أن المسؤولية الاجتماعية ليست إضافة تجميلية على عمل المؤسسات، بل جزء لا يتجزأ من الحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة. كما يثبت أن المبادرات العربية القادرة على إحداث أثر حقيقي لا تُقاس بحجمها الجغرافي، بل بوضوح رؤيتها، وصلابة منهجها، وقدرتها على تحويل القيم إلى ممارسات قابلة للتحقق.
وفي زمن تتزايد فيه الحاجة إلى الثقة والشفافية، يأتي المؤشر العربي للمسؤولية الاجتماعية كدعوة مفتوحة للمؤسسات العربية لإعادة النظر في أدوارها، وبناء علاقتها مع المجتمع على أسس واضحة، ومسؤولة، ومستدامة، بما يضع المسؤولية الاجتماعية في مكانها الصحيح كركيزة أساسية من ركائز التنمية في العالم العربي.
للمزيد والنضمام الرجاء استعمال رابط
شارك هذا الخبر
السيّد تبحث مع السفير الأميركي في التطوّرات السياسية والاجتماعية
مجلس القضاء الأعلى يبدي ملاحظاته على قانون تنظيم القضاء العدلي
لقبان لبيروت فوتبول أكاديمي في كأس النخبة للاكاديميات العربية
الرئيس عون يتلقى اتصالات دعم من أردوغان وعبد الله الثاني… تعزيز العلاقات وحماية لبنان
لبنان يحقق: الموساد وراء اختطاف نقيب متقاعد بالأمن العام
التعاون في قطاع الطاقة على طاولة الصدي وعيسى
سليمان يزور رئيس الهيئة العليا للإغاثة
شراكة بين مؤسسة محمد شعيب الإنسانية – معيش والاتحاد العربي للغرف التجاريةواعتماد من جامعة الدول العربية
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa