صفير... وريث أزمنة بكركي وقنّوبين... للحظة تظنّ موته اختيارًا

16/05/2019 11:22AM

كتب باتريك أنطوان رزق الله في السياسة:

رحل البطريرك. وكأنّه لم يرحل. صفير استعدّ للموت. هيّأ نفسه لمثل هذه اللحظة. حوّلها إلى حدث، إلى موقف، فعبرة. بها توّج مسيرته بتألّق كبير. أن يحوّل المرء عن قصد وإدراك لحظة وفاته إلى حدث فهذه أمثولة للتّاريخ. مذ تخلّى عن سدّة البطريركية، بدأ يخطّ لنفسه مسيرة الرّحيل. بل قل بدأ يخطّ وهج حضوره على صفحات الخلود. خطير دهاء هذا البطريرك. خطير بحنكته الطّاهرة. 


لم يترك برهة في حياته من دون قيمة أو أمثولة. للحظة تظنّ موته اختيارًا. نعم فالسيّد البطريرك دقيق في مواعيده. يضربها لنا ولنفسه وللوطن بعناية. لم تفقده سنوات العجز رصانة الشيوخ وحكمة وقارهم. بقي على بلاغته. يلقي عظاته علينا. ينظر فيعظ. ننظر فنتّعظ. يأمر فيطيعه التاريخ. يهمس فتركن له عواصف الجغرافيا. طبعًا. إنّه السيّد. وريث أزمنة بكركي وقنّوبين. مؤتمن على وصايا الأسلاف وصولات أمجادهم. 


للحظة تظنّ موته اختيارًا نعم فالسيّد البطريرك دقيق في مواعيده


مَن مثله يصافح الموت مرحّبًا. لأنّ مَن مثله له في الحياة شأن لا يضيع. وله في الكلمات والمواقف والأمانة شأن لا يضيع. "لقد قلنا ما قلناه"، قالها فقال الكثير وفعل الكثير. شابّ في كهولته. مقدام في ثباته. عزيز في محبّته. متمرّس في مواقفه. مطاعٌ في ابتسامته. رجل كهنوت وصلاة وسلام. صبور. حمّال أوجاع في المحنة الوطنيّة. بإصرار يصالح. وعن كبر يصافح. علّامة في رسائله. حاضر في موته كأنّه مجد سماوي جاءنا ببركة إلهيّة ولمّا يمضِ بعد. 


رجل سيادة اؤتمن على تراب لبنان. ورجل حريّة ارتفعت أمينة فوق صليبه فصارت قيامة. ورجل استقلال فاح عطر عبيره في ربيع الاستقلال. هذا هو سيّد بكركي. بكركي لبنان وإنطاكيا وسائر المشرق. تسع وتسعون سنة من خشب الأرز. نزيلُ المغاور والكهوف. يزورها كما أسلافه. يحمل صخورها في قلبه. كيف لا وهو الصّخرة، وعلى هذه الصخرة بنى الله مجد لبنان. 


عام ١٩٨٦ اعتلى حقارة مجده. لم يطلب غيرها. أن يكون حقيرًا في قداسته. فكان وأكثر. عام ١٩٨٩ رفعه جنود المئة فوق صليبهم. فارتفع بالصليب. عام ٢٠٠٠ أطلق نداءه فكان هو النّداء. عام ٢٠٠١صالح فتصالح الوطن مع تاريخه. عام ٢٠٠٥ أعاد لبنان إلى لبنانه. وعام ٢٠١١ جلس واقفًا على كرسيّ مجده فأصبح هو المجد وهو الخلود. لم تخرجه استقالة من مشهد التاريخ. على العكس رسمته أيقونةً متوهّجةً في صفاء قلوب الرعيّة. 

عام ٢٠١٩ وقّع وثيقة الأجَل بيُمناه. "نعم" قالها مستجيبًا لمشيئة الله في قدّيسيه. فقالها معه المؤمنون. رحل بإيمان اللحظة وخشوعها. ولم يرحل. 


المصدر : السياسة

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa