لكم تطبيعكم ولي إنسانيتي
06/07/2025 05:28PM
كتب رالف يونس :
في زمنٍ تنكسر فيه المعايير وتنهار فيه المعاني، تحوّل القتل إلى خبرٍ رتيب، والمجزرة إلى مشهدٍ اعتيادي، والمأساة إلى خلفيةٍ صامتةٍ تتجاور في النشرات الإخبارية مع نتائج مباريات كرة القدم وتقلبات الطقس. لم تعد صورة الطفل الفلسطيني المسجّى بدمه توقظ الضمير العالمي، ولا صرخة أمٍّ تحتضن أشلاء صغيرها تستدعي وقفة، ولا ركام المنازل فوق ساكنيها يثير دهشة، أو حتى امتعاضًا عابرًا.
لم يعُد العالم يُطبّع مع القاتل فحسب، بل مع فعل القتل نفسه. أصبح القتل اليوميّ مشهدًا قابلاً للهضم، مسرحية مألوفة في وعيٍ مشوَّشٍ ومُتخَم، وصرنا أمام تطبيعٍ جديد: تطبيعٍ مع الجريمة، مع الألم، مع الذبح الذي يُبثّ حيًّا.
في غزة، لا يحدث الموت في الخفاء. إنه علنيّ، موثَّق، مُصوَّر بدقة 4K، يُعرَض أمامنا كل مساء، مشفوعًا ببيانات الجيوش وأصوات المتحدثين باسم "الضرورة". يُقتَل الطفل لا لأنه يقاتل، بل لأنه فلسطيني. تُباد المخيمات لا لأنها تشكّل خطرًا، بل لأنها موجودة. ومع ذلك، يرى العالم... ثم يصمت. يصمت... ثم يبرّر. يبرّر... ثم ينسى. وكأنّ هذه الأرض المسكونة بالأنين لا تستحق حياةً آمنة، وكأنّ شعبها وُلد ليُذبَح، ليكون مادةً للتفاوض، أو خلفيةً لصورةٍ سياسيةٍ محسوبة.
هل وصلنا إلى هذا الحد؟ هل صار تدمير المستشفيات والمساجد والمدارس فعلاً بلا معنى، لا يستحق حتى دقيقة صمت؟ هل باتت المحرقة اليومية مجرّد نشرةٍ عابرةٍ يتبعها إعلانٌ عن مسلسل أو تقريرٌ عن حالة الطقس؟
لقد تنبّهت الفيلسوفة حنّة آرندت ذات يوم إلى ما أسمته "تفاهة الشر"، حين يتحوّل الإجرام إلى وظيفة بيروقراطية تُمارَس بلا ضجيج. لكننا اليوم أمام نسخةٍ أكثر توحشًا: شرٌّ فادح، مُصوَّر، مُحتفٍ بنفسه، ومع ذلك لا يثير فينا سوى لامبالاةٍ مخيفة. نُشاهد صور الجثث كما نشاهد عروض الأزياء، ونمرّ على أنقاض البيوت كما نمرّ على تحليلات السوق.
نحن لا نواجه فقط تطبيعًا دبلوماسيًا، بل انهيارًا أخلاقيًا، تحللًا في الوعي الجمعي، حيث يتحوّل المظلوم إلى عبءٍ، والمجرم إلى شريكٍ في "الواقعية السياسية"، وتُمنَح الوحشية شرعيتها باسم "حق الدفاع عن النفس".
الخطير في هذا المشهد ليس فقط من يقتل، بل من يشاهد القتل ويصمت، من يبرّره ويُعيد صياغته كضرورة، من يُحوّل الضحية إلى رقم، إلى إحصائية، إلى "خسارة جانبية". هؤلاء لا يُوسّعون رقعة الجريمة فحسب، بل يمنحونها الحياة، يجعلونها قابلةً للاستمرار.
التطبيع الأخطر ليس ذلك الذي يُوقَّع في القصور، بل ذلك الذي يُمارَس في القلب والعقل. حين ترى صورة طفلٍ مقطّع الأوصال ولا تشعر بشيء، حين تقرأ عن مجزرة وتنتقل بعدها مباشرة إلى طعامك أو هاتفك أو حديثٍ عابر دون أن يرتعش فيك شيء، فأنت لا تشاهد المجزرة فقط… أنت جزءٌ منها.
لهذا، لا بد أن نُعيد تعريف معنى الإنسانية. أن نُعيد تثبيت البوصلة الأخلاقية قبل أن تتآكل تمامًا. أن نقول: لا، ليس لأننا فلسطينيون، أو عرب، أو مسلمون، بل لأننا بشر. لأنّ المذبحة، أيًّا كانت، يجب أن توقظ فينا شيئًا. لأنّ الدم ليس لونًا محايدًا.
في مواجهة آلة القتل التي تفتك بغزة، لا مكان للحياد.
الصمت خيانة.
الاعتياد تواطؤ.
و"الواقعية السياسية" التي تُبرّر الإبادة… هي شراكة موثَّقة في الجريمة.
فلكم تطبيعكم... ولي إنسانيتي.
ولي حقي أن أرتجف، أن أصرخ، أن أرفض، أن أبكي، أن أظل إنسانًا في وجه عالمٍ يُعاد تشكيل ضميره على صورة القاتل.
شارك هذا الخبر