لبنان بعد مئة عام، إلى أين؟...

31/05/2020 08:29PM

كتب أستاذ  الفكر السياسي في الجامعة اللبنانيةالدكتور جيرار  ديب:

"في 1 سبتمبر 1920 في قصر الصنوبر، أعلن الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير، معلنًا بيروت عاصمة لها. وتمثّل علم الدولة، في دمج علمي فرنسا ولبنان معًأ. ووصفت الدولة الجديدة باسم "لبنان الكبير" على أساس إضافة مدن، الساحل والبقاع وطرابلس والجنوب وسهل عكار، إلى المنطقة التي عُرفت تاريخيًا، بمتصرفيّة جبل لبنان، الذاتية الحكم، والتابعة للإمبراطورية العثمانية.

مئة عام على ولادة لبنان الكبير، واللبناني لم يزل يترنح ضمن الاصطفافات بين الشرق والغرب. مئة عام ولبنان الكبير، أصبح صغيرًا بتقسيماته الطائفية والمناطقية، ولا سيما بعد صياغة الدستور عام 1926،وبعده كان اتفاق الطائف، وأخيرًا توافق القوى المتقاتلة في لبنان على صيغة الدوحة 2008 المعدّلة.

بالعودة إلى قصر الصنوبر ،نتسائل: هل كان يومها الجنرال غورو يعلم أن لبنان، الحديث الولادة، الذي فصلّه نتيجة معاهدة سايكس-بيكو، لن يكون إلا حبرًا على ورق، في ظلّ لبنانات أفرقائه؟ هلكان يتخيل يومًا، أنه ضمّ الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان، دون أن يضمّ الشعب إلى رؤية واحدة، ونظرة مشتركة لبناء الدولة المدنية الحقيقية؟

شهد البلد خلال اليومين الفائتين، خطابات عالية النبرة، أبرزها من مرجع ديني بوصف الدستور اللبناني بالفاسد، وأن صلاحيته أنتهت. وأيضًا، دعوة أخرى صريحة، أتت على لسان مرجع ديني آخر، دعى فيها لحماية طائفة معينة، وعدم المسّ بصلاحيات الرئاسة الثالثة. ترافق هذا، مع دعوة بدأت تتحدث في العلن، بعد أن كانت طويت مع صفحة الحرب الأهلية، على "فدرلة لبنان"، أي إعطاء كل منطقة استقلالية الحكم الذاتي.

ليس غريب، أن يسمع اللبناني ما سمعه،فهو الذي اعتاد على فكرة التقسيم، وعاشها في مناطقه، ولو بطريقة الممارسة اللاقانونية. لقد عمل العثماني، منذ وجوده في لبنان لمئات السنين على التقسيم،والشرذمة للصف الواحد، كي يتمكن من فرض سيطرته. فزرع روح الشقاق، والإنقسام، داخل النفوس، وبين المناطق، وفي الطوائف. واكمل الانتداب الفرنسي المسار، فميّز في التعاطي، وأعلاء الشأن لطائفة دون سواها. الأمر الذي ولّد الشعور بالدونية والخبنفي التمثيل والمشاركة، لطائفة دون سواها.

إذًا، تاريخ هذا البلد، وقبل الاعتراف باستقلاله، وبعده، لم يزل على خطى الشقاق. بل أكثر من هذا، فلكي تتمكن طائفة أو فريق، أو حتى مذهب فرض السيطرة، كان عليها الانتماء في احضان الغريب. الأمر الذي يجعل من اللبناني، ينفّذ سياسات الآخرين. لهذا، أطلقت المقولة الشهيرة عن الحرب الأهلية في لنبان: بأنّها كانت حرب الآخرين على أرض الوطن.

لم يستطع اللبناني، تخطي الخوف من الآخر المختلف عنه. فوثيقة مار مخايل، بين التيار الوطني الحر وحزب الله في عام 2006، اعتبرت من أهم الوثائق التي صيغت بين مكونين أساسيين لتحديد طريقة التعاطي السياسي بين فريقين، قد تكون نقاط الخلاف بينهما، أكثر من نقاط التلاقي. وغير تلك الوثيقة لم يشهد لبنان، عبر تاريخه، سوى بعد الأحلاف التي تربط بين الأفرقاء، إما مصالح مشتركة، وإما تغطيات وتمريرات وصفقات، أو حتى فساد مشترك.

رغم الدعوة إلى إقامة الدولة المدنية في لبنان، لكن العبرة تبقى في التنفيذ. فهكذا دولة، لا تبنى على القطعة،أي نأخذ ما يناسبنا، ولا نهتمّ بما يعارض تطلعاتنا. بل يجب الأخذ بها كخيار أساسي،للخروج بالبلد من الطائفية والزبائنية، نحو مجتمع يحاكي المواطن عبر تأمين حقوقه وحاجياته.

 المشكلة في لبنان، تكمن في الوعي الوطني، الذي لم يزل يرزح تحت عبودية الزعيم، والطائفة. لهذا، جلّ ما على الدولة، العمل على نشر الوعي الوطني، لتهيئة الفرد إلى الاعتراف بالآخر كشريك حقيقي له في هذا البلد. مع السعي إلى تبديد مخاوف الآخر عبر تأمين الضمانات القانونية للطرف الذي يشعر في الخوف. فمثلًا، تمسّك المسيحي بالميثاقية في التوظيف، نابع من خوفه من ذوبان الوظائف لطائفة دون أخرى. إضافة إلى العمل على فكّ الارتباط بالخارج، والعمل على تأمين المصلحة العليا للوطن.

المئة عام الأولى على ولادة لبنان، هي كما المئة عام قبل على ولادته. فلا شيء تغيّر، سوى عند البعض في نفوس الذين يحاولون بين الحين والآخر، كسر الطوق، وتحرير الوعي من قيود كبّله فيها زعيمه، كي يبقى متزعمًا.

اليوم وفي احتفال بالمؤية الأولى، يحتفل لبنان بدين عام كبير، تعدى المئة مليار دولار. لهذا، بات الأمل عند رئيس البلاد، والمؤسسات التشريعية والتنفيذية، للعمل سويًا لإجراج لبنان من دائرة الفساد، عبر اطلاق القرار الجريء بالمحاكمة لكل من سوّلته نفسه نشر الفساد،واستعادة الأموال المنهوبة، القادرة على تغطية هذا الدين، لا بل أكثر.

أخيرًا، ليس من باب الصدفة أن يكون على سدة الرئاسة قائد عسكري، طرح في قَسَمِه عند انتخابه رئيسًا، رؤيته للبنان الجديد، وتصميم عنيد بوضع لبنان على السكة الصحيحة. لهذا يأمل اللبناني، في السنتين المتبقيتين من ولاية العهد، أن يرى المزيد من العمل الجدي والقضائي في موضوع،المحاسبة والمحاكمة. لأنّ من شروط الدولة المدنية أن يكون القانون فوق الجميع، وأن تأخذ العدالة مجراها لصالح المواطن. والأهم من هذا، يجب تهئية النفوس عبر تنمية روح الوطنية، وإعلاء مصلحة الوطن العليا فوق كل شيء، وذلك قبل العمل على التغيير في النصوص لبناء الدولة المدنية. لكي يصبح عند اللبناني أملًا، في أن يكون لبنان في مئويته الثانية، بلدًا مدنيًا، حضاريًا، في الممارسة وليس فقط على الورق".



المصدر : السياسة

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa