قراءة في العقوبات... ومعمودية فنيانوس وباسيل

15/11/2020 04:08PM

كتبت غدي فرنسيس في "السياسة":

منذ أيام والفكرة لا تبارح عقلي، ربما يجب أن أكتبها وأُخرجها منه. 

لا أعرف من أين ولد لدى نخب بلادنا مفهوم أن وضع عقوبات أميركية على سياسي تضعفه داخلياً بالضرورة. لا أجدها أمر جلل بالحقيقة. فليزرع ويحصد بالسياسة والحقول كما يدعونا وكما يجب. 

فلينتج وليبتدع ما يقويه.

وما المشكلة مع الزهد؟ إنه امتحان سياسي يخرجون منه أصلب إن أرادوا وعرفوا... وللحديث تتمة.. عن كل من جبران ويوسف وغيرهما

لكن بالحديث عن النخب في البلاد والعته...

لماذا يبدأون ب "تهبيط" الهمم وشحذ الإنتصارات الوهمية إبان قرار عقوبة أميركية؟

إذا كنت تعوّل على عقوبات الأميركي لتنتصر على غريمك السياسي فأنت تقول: أنا مخصي 

بهذه البساطة

تقول: هو قوي جداً وأنا ضعيف أريد من يهزمه عني.

فلتهزموهم بمشاريعكم أيها الساسة الجدد كي لا تستعجلوا السقوط أقلّه أمامنا نحن الناس قبل الأجانب. 

فلتهزموهم بالحق الذي يصرع باطلهم، وليس بباطل أكبر وأعتى كي ننتخبكم قادة المسار والمصير ونقتنع بكم بالمستقبل.

إنه العته بذاته أن تشمت من إنزال عقوبات سياسية أميركية، أنت الذي تعلّق صورة غيفارا لتستلهم ثورتك. هل غاب عنك أول من عاقبته أميركا في التاريخ المعاصر؟ يجب أن يغضب الثائر الذي فيك من عقوبة تجعل "أفشل وأسوأ" الساسة في مرتبة الثائرين...

لكن مصيبتنا أنه في بلادنا هو حكم الفساد أو العته أو مزيجهما القاتل!

العته! إنه العته السياسي بذاته.

المهم

الزهد جيد، العقوبات جيدة، ملح الرجال أقول لكم... مصنع الرجال والدول. 

بالمناسبة، ورغم أن الموضة والأيفون والحياة والرغد والراغدة كلها أمور توحي لنا بالسعادة المطلقة والنجاح المطلق للتجربة المتعارف على تسميتها الغرب، وتشهينا لرائحة الكرواسان المستورد في شوارع نيويورك مثلاً... ولفساتين إيلي صعب التي تعرض في باريس وآثار بابل المعروضة في برلين ولندن!!! 

 إلا أنني أقول لكم، كلما سافرت شرقاً حسدت الشعوب تلك التي ليست "كلاس". 

الروسي والإيراني والنيبالي والتايلندي والماليزي والصيني والياباني والكوري... كلها شعوب لم تبنِ نفسها بالإنبطاح الدائم... وبالمناسبة، ودحضاً لأي أسلوب من الحرب النفسية التي يخوضها هؤلاء وأدواتهم علينا، ويقنعون عقولنا الباطنية أنه "عيب" و "مبالغة" و "وهم" و "تخلّف" أن نحكي عن التوجه شرقاً أو نفكر فيه. وأن الدواء الرخيص المصنوع في إيران أسوأ من التسوّل للمافيات والشركات الغربية. بهذه المناسبة أقدّم لكم:

فاصل غزل بإيران:

إنني معجبة جداً بتجربة الصناعة الإيرانية في وقت الحظر العالمي.

الجماعة لم يتوقفوا عند صناعة السجاد يا سادة. 

إذهبوا إلى "سيليكون فالي إيران" وإسمه هكذا حرفياً. لقد زرت تلك البقعة التكنولوجية التي أسستها الرئاسة الإيرانية في جبال شمال طهران، تصنّع النانو تكنولوجي، وتبتدع ريادتها الخاصة في مجالات جمة عالمياً. 

وقبل التكنولوجيا صنعوا السيارات التي تمشي على غاز، والصواريخ، ولعلهم قبل النانو صنعوا النووي الذي أعاد أميركا لمفاوضتهم فينا وببلداننا أحياناً. فعلاً، إيران المعاقبة أميركياً، إيران الخميني، تمددت إلى فلسطين وسوريا والعراق واليمن ولبنان، أما إيران المرضي عنها، فكانت في مكانها هناك، لم تكن "عنا"

لست بمعرض تمجيد التجربة الإسلامية ولا تسويق بضاعتها إنما ذكر للحقائق. إن العقوبات الدولية عليها وسّعتها إلينا. هل كان الشاه الإيراني يحتل قلب مليون لبناني قبل ال1979. سؤال!

المهم،

أرى أن وضع العقوبات الأميركية على الأفراد والمنظمات والشخصيات والبلدان، ليس موتاً محتماً إلا إذا شاؤوا.

هذا حرفياً ورد على لسان جبران باسيل في مقابلتي معه منذ أيام باللغة الإنكليزية لبرنامج بريد غرب آسيا على قناة WION العالمية.

حدث أن أعطانا المقابلة الأولى له بعد العقوبات وأن ناقشناه من منظور عالمي لمشاهد مختلفة، فتكلم دبلوماسياً وتعاطينا رسمياً. 

فاصل تحليل جبران:

لكن جبران رغم قوله كل هذا، لم يبدُ لي قوياً. أربكني كثيراً، فلا أحبذ المقاطعة وال "أستذة" لكنه يتعاطى مع السؤال قبل بروزه كأنه لكمة، فيتحضّر للضربة، أسأله، فيجيب بما يفيد أن يتهرب من اللكم، إنما لا يجيب. لا يبوح عند التساؤل، بل يثب. 

الأمر يعود إلى أسباب كثيرة أبرزها أن الإعلام الذي يتعاطى معه عوّده أن المقابلة مبارزة تهدف إلى الشيطنة. حتى إنه تفاجأ بأني "لم أزعجه" 

وكذلك، أعتقد إن تجربته في الدبلوماسية وتدوير الزوايا نعّمت كلامه بالفطرة. كل شيء بأقل كلفة ممكنة. لكن وبدبلوماسيته، ولطفه نحو الصداقة التي يكرر ذكرها مع الأميركي، وضعه الله هنا، في الصف الأمامي لمواجهتهم... ولا أراه شخصية ترغب بأن تقوم بذلك.

كأنما هي ليست النيّة إنما الفعل. وأنت مجبر أن تحاكم الفعل بعين المتعاطف، فهو موقف شجاع ومواجهة. أما النيّة، يبدو فيها القلب في الغرب. حتى إنني سألته عن نية التوجه شرقاً يقول "الأمريكيون يجبروننا..."

لكنني لم أسأل عنهم. حتى حين أسأل عن الشرق، يحاكي الغرب من وجدانه... لكن وما الضير أصلاً في أن يجبروننا؟ هل الشرق "فقير متّسخ نحن نتفوق عليه بلبنانيتنا؟ بالتبولة والكبة النيّة والمونة؟

سؤال!

فاصل تعاطف إنسان

يقول لي البعض إنه فعلا لأمر مزعج لأولادهم وعائلاتهم. بالحقيقة، رغم محبتي لبعضهم على الصعيد الشخصي الإنساني، لا أجد في عمق عمقي أي نوع من التعاطف المتبقي لأضعه هناك. أمام ويلات العوائل والبلاد، أجد صعوبة السفر والصرف مجرّد تغيير نمط حياة، نحو المستحق والعدل.

 ليس من العدل أصلاً أنك تستطيع كل تلك الأشياء قبل أن تكون متاحة لكل شخص ومواطن تمثّله وتعمل له في الوطن.. فلا يستحق فعلاً أي منهم أكثر من إبن أي شخص في بلدانهم. وبالتالي، لن تمسني الشفقة ولا التعاطف أنك لم تعد تستطيع أن تستخدم الدولار. 

رغم العقوبات عليهم، لن نجدهم يتعرقلون، سيبقون على أنماط عيشهم اللطيفة، وستبقي الفتاة الصغيرة حصانها، وسيبقى الشيخ على سياراته رباعية الدفع المصفّحة وسيبقى نمط حياتهم لطيفاً جداً من الناحية المادية مقارنة بحياة الناس. إنما التضحية الكبرى ربما تكمن في مفهوم المواجهة. أنت تعاقب من السلطة الأبوية العالمية. يعاقبك القوي القاسي الذي يهابه الجميع.

وهنا القرار، هل تكون المشاغب الثائر أو المخرّب المنبوذ؟

إنني إذا لا أجدني متعاطفة مع أي منهم من ناحية فقدان أموالهم، يهمني أن أشدد على اهتمامي الكبير بالتجربة التي يخوضها كل منهم على صعيد التكوينة السياسية. المشاغب الرجل المستهدف لأنه هو هو. إنها القوة. والقوة لا تنتهي إلى عدم، لا يمكن. تتحول

شاهدت 4 مشاغبين 

لقد شاهدت تجربة أربع رجال تلقوا العقوبات الأميركية، التقيت بجميعهم ونظرت إلى وجوههم وعيونهم وعاينت ردود فعلهم وتابعت ما فعلوا. البعض عرفته أكثر وأقرب من سواه، ولكنها تجربة فيها الكثير من الشبه.

 كأن نقول يمر الإنسان بعمر المراهقة أو بسن الأربعين، كذلك يجب أن نقول: تجربة العقوبات الأميركية على رجال السياسة، فما بعدها ليس كما قبلها. كالمعمودية، كالمطهر... كأنما يعطونهم مع العقوبات بطاقات هوية جديدة معها الصفات: هذا الرجل يزعجنا لأنه كذا! 

إن هذه التجربة تقول الكثير، عن معادن الرجال، عن ذواتهم الداخلية، تطبع وتطبّع هوية كل واحد منهم. تبصم على غلاف مسيراتهم السياسية. لا أعرف ما الصواب ومن الخطأ، وكل شخص له في نفسه هدفه وظروفه ونواياه. لكني سأكتب تحليلي الشخصي.

المعمودية بمواجهة أميركا

بعد العقوبات كما قبلها، لم تتغير حياة ريان الكلداني الذي هو أصلاً إبن سلاح مقاومة من أساسه. هو أمين عام الحزب المسيحي الوحيد المتحالف مع محور المقاومة في العراق، الذي قاتل الإحتلال وداعش وصعد السلّم السياسي بفروعه في العقد الاخير. حين قررت أميركا أن تعاقب ريان، أعطته وساماً يُصرَف مفعوله سياسياً في العراق، وبقي على طاولة القرار بل تجذّر وتأصّل.

أما الرجل السوري، فبحكم أنه سوري، لم يعتد أن يحتاج الدولار في السلطة ولا في القوة. فبعد العقوبات ربما خسر الكثير من المال، لكنه ابتدع جسره الروسي بطبيعة الحال على مسار نضالي هو ولد فيه وعاش فيه ويعرفه تمام المعرفة ويحبه ويستهويه.

في لبنان لدينا حالتين مختلفتين كلياً.

حين تعاقب قراران بحق يوسف فنيانوس، وزير الأشغال السابق المحسوب على سليمان فرنجية الذي لا نعرف عنه أكثر من هذا الدور، تغيّر الأمر.

نحن كنا سمعنا في الأروقة، أن يوسف الأقرب إلى الحزب والمحور، وأن يوسف صانع سياسة ومن أسياد اللوبي السياسي الذي يدير الطبخات السياسية. لكن العقوبة عمّدته حالة خاصة منفصلة مستقلة نابتة من نفسها. فلم يأت ذكر تيار المرده ولا خياراته السياسية. كانت عقوباته عليه هو لدعمه هو وعمله هو. وبمعزل عن أدواره التي إذا عرفنا عنها شيئاً تغيب عنا منها أشياء، إلا أن وزارة الأشغال وفسادها، لهما ملك يدعى غازي العريضي، ومدبّر اسمه غازي زعيتر. ولو كانت الأمور مرتبطة بأي شيء عن الفساد، لما اقتطعت العقوبات الغازي الجنبلاطي والغازي البري منهما. الأمر هو حزب الله.

بعد العقوبة يوسف فنيانوس حالة مسيحي ريادي في المحور، مصنع مشاغبته من يديه هو لا من "معلّمه" المفترض الزعيم الزغرتاوي. من خياراته الشخصية هو. لم يتغيّر عليّ أبداً بعد العقوبات عما قبلها. تجده صاحب قوة كامنة. هو المشاغب الذي يزهو حالياً أن مشاغبته استدعت طرده من المدرسة. أما جبران، فيبدو عليه نظرة المظلومية "سأتجرع كأس السم هذا الذي لا أحبذه.. لأجل لبنان" وإن سبب معاقبته أصلاً هو من صنع يد معلّمه المفترض، واسمه اتفاق مار مخايل.


المصدر : السياسة

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa