"الأسود" لا يليق بلبنان..فرَحٌ رغم اليأس

07:13AM

جاء في الراي الكويتية:

غالباً ما يقال إن «الأسود» لا يليق بلبنان المرادف لـ «حب الحياة» منذ الأسطورة التي تحوّلت أمثولةً عن «طائر الفينيق» ولعبة الانبعاث من الرماد كلّما غَدَرَ الزمنُ بـ«بلاد الأرز» وجَعَلَها حطاماً بـ «القوة القاهرة»، زلازل أم حروب، نكباتٍ من فِعل الطبيعة أو مكائد من صُنْع الإنسان.

ويكاد أن يكون دفترُ الذكريات اللبنانية محشواً بأيام سراء وأيام ضراء، لكن لا مكان بين دفّتيْه لـ «اليأس»، فتواريخ المِحَنِ في الوطن الصغير أكثر من أن تُحصى، لكن سِمته الدائمة هي الأضواء التي أَكْسَبَتْه ألقاباً لم يجفّ بريقُها رغم المآسي... من سويسرا الشرق إلى لؤلؤة المتوسط، ومن درّة العرب إلى وطن الإشعاع.

صفاتٌ ليست مجرد تراثٍ لبناني بل ديناميةٌ تجعل الوطن، الذي عانى حروباً متوالية وحطّم أرقاماً قياسية في الاغتيال السياسي والذي تَعاقَبَتْ عليه الاحتلالات ودهمتْه أعتى أزمة مالية في العصر الحديث وانفجر مرفأه بـ«نصف بيروت» وتلاشت دولتُه واستوطنَ الفراغُ رأسَ السلطة مرّات ومرّات، مشروعاً دائماً للحياة.

ولهذا لم تكن مصادفة أن ترتفع الزينةُ وتَلْمَعَ الأضواءُ وتَنْفَرِجَ الأساريرُ وتَنهض الهِمَمُ عشية عيدي الميلاد ورأس السنة في لبنان الذي خَرَجَ للتوّ من حربٍ طاحنة مازالت تلملم ذيولها، ولم يغادر الحفرةَ المالية السحيقة والذي يَسكنُ الفراغ في رأسه و... يَتعقّب مصيرَه فوق رقعة الشطرنج في الإقليم الذي يكاد أن ينقلب رأساً على عقب.

ربما يحتفل اللبنانيون بأن السنّة الجهنميةَ أخذتْ تَلْفظ أنفاسَها الأخيرة، سنة الحرب المجنونة التي تودّع مع عيديْ الميلاد ورأس السنة إيذاناً بسنةٍ تطلّ في رحابِ وَقْفِ نارٍ علّه يكون مستداماً، وفي ظلال سورية الجديدة التي طردت كابوسَ 50 عاماً أصابت شرورُه لبنان على مدى عقود وعقود.

مُتْعَبون اللبنانيون... صحيح، لكن الأصحّ أنهم توّاقون للخلاص وأعيادُهم ليست مجرد مناسباتٍ سنوية بقدر ما هي فرصةٌ لزرع الأمل ولو من بين الأنقاض وفوق أطلال أيام مأسوية. وها هم كأنهم في تمرينٍ لمعاودة بثّ روح الفرح عبر أشجار الزينة وشلالاتٍ من الأضواء والسهرات العائلية ونفْض الغبار عن الأسواق والمَقاهي والمطاعم.

احتفالات بالحد الأدنى

ليست مَظاهر الأعياد هذه السنة بالزخم عيْنه الذي تعوّدت عليه بيروت والمَناطق. فلبنان مازال يلملم ما خلّفته الحرب من انعكاساتٍ على كافة المستويات. لكن الطبعَ يغلب التطبيع، فها هو يحاول «استرداد» الفرح من فم الأحزان والأهوال بـ «إسنادٍ» من مغتربين عائدين إلى بلدهم بعد انقطاعٍ قسري دام لأشهر ويُعوَّل عليهم دائماً لضخ الحياة في شرايين الوطن الاقتصادية وتحفيز الحركة السياحية والترفيهية في المطاعم والمنتجعات والأندية والبلدات المختلفة.

في البترون البلدة الشمالية التي تحوّلت عاصمة السياحة في لبنان، أقيمت قرية ميلادية مع أجمل الزينة في الشوارع التراثية الضيّقة، ومعارض للهدايا والأعمال اليدوية ما ساهم في تنشيط حركة الزوار والمَطاعم فيها وجَعَلَها قُبْلَةَ المغتربين واللبنانيين الباحثين عن واحة فرح وسلام.

والبترون على منافسةٍ «حُبّيةٍ» دائمةٍ مع جبيل حول الاستقطاب السياحي، إذ تتبارى المدينتان في مَن يكثّف الزينةَ أكثر ويزيد من النشاطات الترفيهية فيهما. وتبدو شجرة الميلاد التي رفعتْها جبيل من بين الأجمل في لبنان، والعالم وتُعتبر الفائزة على الصعيد المحلي، يتجمع حولها الزوار من الشمال وبعلبك والبقاع والضاحية والجنوب رغم الأحزان.

وهذه السنة دخلت مدينة جونية على خط المنافسة لتقدّم «بنص جونيه» مهرجاناً ترفيهياً مليئاً بالألوان والموسيقى والأضواء وضحكات الصغار والكبار.

وحتى لا تبقى المناطق الريفية والجبلية بعيدة عن أجواء الأعياد أعدّت مدينة زحلة، عاصمة البقاع، حفلاتٍ ونشاطاتٍ وقريةً ميلادية ملأى بالأضواء لتعيد رسم البسمة على وجوه أهل البقاع كافة. أما في الجنوب، ومع اقتصار مظاهر الاحتفالات على بلدات قليلة، فإن منطقة بكاسين، القريبة من جزين والمعروفة بغابات صنوبرها الدائم الخضرة، رَفَعَتْ شجرةً ميلاديةً كبيرةً في تحدٍّ لكل ويلاتِ الحرب التي شهدها الجنوب.

وحدها بيروت بدت وكأنها تغرّد خارج السرب. ففي حين تَفَنَّنَتْ العام الماضي، ورغم بدايات حرب المُشاغَلة التي كانت تدور رحاها بشكل محدود في الجنوب، في جَمْعِ كل أهلها من مختلف طوائفهم في قرية وأسواق خاصة بالمناسبة ومع زينةٍ أعادتْ الرهجة والضوء الى الشوارع الكئيبة، فإنها اليوم تبدو متحفّظة وكأنها لا تجرؤ على الفرح.

فالعاصمة التي استقبلت عشرات آلاف النازحين لاتزال تئن تحت صدمة ما نالها من ضربات أصابت منها القلب وتتحسر على أحزان وخسارات مَن استضافتهم. ورغم أن بيروت تحتاج إلى وقت لبلْسمة جراحها، إلا أنها لم تتخلّ عن الزينة والأضواء في بعض أحيائها، ولا عن تقليدها الموسيقى مع نشاط «بيروت ترنّم» السنوي الذي يَستقطب أبرز الموسيقيين والأصوات الترنيمية في لبنان والعالم ويُقدَّم مجاناً الى كل اللبنانيين الراغبين بالانتقال الى آفاق أسمى على أجنحة الموسيقى.

مجمع أسواق بيروت، الذي اعتاد أن يبهر زوارَه بأجمل الزينة والذي كان يتحضّر لإعادة افتتاحٍ كبرى لغالبية متاجره، تَلقى مع اشتداد الحرب صفعةً أرجأتْ مَشاريعه، وقرر استبدال الزينة المكثّفة لهذا الموسم بالتبرّع لمصلحة العائلات النازحة وتأمين احتياجاتها عبر منظمات غير حكومية. كما ساهم المجمّع في إعادة تأهيل معدات أساسية للدفاع المدني اللبناني الذي لعب الدور الأبرز في الحرب. وكل هذه الجهود كما يقول أديب النقيب، المدير العام للأسواق، تعكس التزام الأسواق العميق بالتضامن المجتمعي في الوقت الذي تشتدّ الحاجة إليه.

الإنسانية أولاً

ولأن الأعياد لا تكتمل أبعادُها من دون مبادراتٍ إنسانية، لاتزال الكثير من الجمعيات الأهلية وغير الحكومية تتابع أعمالها في دعم النازحين والذين خسروا بيوتهم والوقوف بجانب العائلات المحتاجة، وهي تقيم في وقت الأعياد نشاطات مختلفة للأولاد للترفيه عنهم وإبعاد شبح الخوف عن أذهانهم، كما تقدّم بعض المعونات الأساسية لهم.

في كفرشيما التي كانت شاهدة على أسوأ أيام الحرب، يخيّم المشهدُ الإنساني على البلدة التي استعادت قسطاً من عافيتها، إذ تشهد مبادرةً إنسانيةً أطلقتْها جمعية «كفرشيما كوميونيتي» بمناسبة عيد الميلاد، لجمْع أكبر عدد من الملابس والحصص الغذائية لتقديمها للأشخاص الأكثر حاجة في القرية.

المبادرة التي تحمل اسم «دفي بيتو من بيتك» تتزامن مع مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد ومبادرات إنسانية أخرى في عشرات القرى والبلدات اللبنانية، من أجل بث روح الفرح والعطاء في قلوب الجميع. وأسماء الجمعيات أكثر من أن تُحصى وتُعدّ، وفي هذا إشارة واضحة كيف يلتفّ اللبنانيون على بعضهم البعض في أوقات الصعاب والأزمات ويَعتمدون التضامن والحس الإنساني مبدأً يتعالى على كل الانقسامات. فالمبادرات الإنسانية الكثيرة في زمن الأعياد لا تفرّق بين مُوالٍ ومعارض، فالكلّ ضحية والكلّ بحاجة لمَن يمسك بيدهم ويخفف آلامَهم.

لبنان الذي يوجِد من الضعف قوةً، يُعانِدُ الأزمةَ الاقتصادية وإن كانت تلقي بظلالها الداكنة على قطاعه التجاري والفندقي. فالمَتاجر التي كانت تشهد زحمةً في موسم الأعياد، بدت الحركة فيها خجولةً رغم ما طرأ عليها من تحسّن. وفي حين تشهد الطرق والشوارع ومواقف السيارات القريبة من المجمعات التجارية زحمةً خانقةً، إلا أن حركة البيع أقل نسبياً من العام الماضي، وفق ما يقول لـ «الراي» أحد مديري شبكة متاجر عالمية. وذلك لأن أسعار البضائع مرتفعة نسبياً بسبب ارتفاع الضرائب الجمركية ما جعل الزبائن يميلون الى البضاعة الأقلّ ثمناً. فالكل يفتّش عن هدايا وهذا ما يستولد حركةً لافتة، لكن قيمة المبيعات تبقى أقلّ من المعتاد بسبب ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية.

فلنحتفل...

وحده قطاع المطاعم يأمل خيراً بموسم الأعياد بعدما شكلت نهاية الحرب طاقةَ أملٍ له: فالحرب لو استمرت، وفق ما يقول صاحب سلسلة مطاعم شهيرة تمتدّ من البترون الى صور، «لكنا أعلنا إفلاسَنا بشكل أكيد. فالخسائر التي تكبّدناها في صور والضاحية لا يمكن لبقية مطاعمنا أن تعوّض عنها ولا سيما أن الحركةَ لاتزال بطيئة ولم تعد الى سابق عهدها».

القطاع الترفيهي يشهد بدوره جرعةَ أوكسجين مع عودة الحفلات الفنية والترفيهية. فليلة رأس السنة تَرفع أسماء كبار الفنانين اللبنانيين بعدما اعتادوا إحياءها خارج البلاد. حتى أن فنانين فقدوا بيوتهم في الحرب يصرّون على بث الفرح في النفوس عبر إحياء حفلات رأس السنة.

إليسا، آدم، ملحم زين، معين شريف، عبير نعمة، غي مانوكيان وغيرهم يحيون حفلات رأس السنة في أفخم الفنادق والمنتجعات اللبنانية بأسعار تصل الى حدود 200 دولار للشخص. وستساهم هذه الحفلات في إعادة بعض من الإشغال الى الفنادق التي افتقدت نزلاءها طوال العام الماضي.

وكعادتهم يتفنّن اللبنانيون في ابتكارِ أجمل السهرات في أماكن خارجة عن المألوف فلا يكتفون بالمطاعم وصالات الفنادق بل يبحثون عن البيوت التراثية القديمة والشاليهات الجبلية وحتى الخِيَم والشرفات البحرية لتكون الخلفيةً الأجمل لسهراتهم فتحوّلها ليلةً حلم يؤمل أن يتلألأ فيها الثلج الأبيض فيُدواي ذاكرة الأيام السود. وهذه اللمسات الخاصة هي ما جعلت لبنان محط أنظار كل محبي السهر في العالم وجعلتْه مقصداً لكل المغتربين والأشقاء العرب الراغبين في قضاء أوقات لا تنسى.




شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa