جورج خباز: فنانٌ يكتب عمره على ملامح الفن

09/04/2025 01:34PM

كتب الناقد السينمائي شربل الغاوي في السياسة: 


في زمنٍ تتشابه فيه الوجوه، وتتكرر الأدوار كأصداءٍ باهتة، ينبثق جورج خباز كحالةٍ فريدة، كاستثناءٍ يرفض أن يُستهلك، كنغمةٍ تتحدى الضجيج، وحكايةٍ تأبى أن تموت. لم يكن مجرد ممثلٍ يتنقل بين الشخصيات، بل كان شاعرًا يكتب بالحركة والصمت، ونحاتًا يعيد تشكيل روحه في كل دور، حتى صار الزمن نفسه جزءًا من أدواته، يترك أثره على ملامحه، ينعكس في نبرة صوته، يتجسد في نظراته، فيجعل من كل مرحلة عمرية فصلًا في روايةٍ لا تُمحى.



هذه ليست مجرد سيرة فنان، بل قصة رجلٍ أدرك أن الفن ليس لحظة تألقٍ عابرة، بل مسيرةٌ تتحدى النسيان. لم يكن يمثل الشخصيات، بل كان يسكنها، يعيد نبضها إلى الحياة، يمنحها لحمًا ودمًا وذاكرةً. لم يرضَ أن يكون ظلّ نجاحٍ واحد، بل غامر، خسر، انتصر، وسار عكس التيار، كالموج الذي لا يستكين، وكالنار التي لا تنطفئ.



البداية: حين كان الضحك دمعةً متخفية


لم يكن الضحك عند جورج خباز غايةً، بل كان ستارًا، خلفه وجعٌ دفينٌ لا يراه إلا من أمعن النظر. كانت الكوميديا في يديه سلاحًا، ليس للتهريج، بل لكشف الحقيقة، لم يكن يستهزئ بالبسطاء، بل كان يخلع أقنعة الزيف عن الجميع، يعري الواقع بأسلوبٍ ساخرٍ حتى يضحك الجمهور، ثم يكتشف متأخرًا أنه يضحك على نفسه.


في بداياته، لم يكن الضحك مجرد وسيلةٍ للتسلية، بل كان صرخة احتجاجٍ مكتومة، كان بكاءً متخفّيًا في ابتسامة. لم يكن يكرر الشخصيات، بل كان يعيد خلقها، يمنحها بُعدًا أعمق، فتتحول من مجرد مشهدٍ كوميدي إلى مرآةٍ يرى فيها الجمهور نفسه، بضعفه، بقوته، بتناقضاته التي يخفيها عن الجميع، حتى عن نفسه.



لكنه لم يتوقف عند الكوميديا، لأن الفنان الحقيقي لا يبقى في قفصٍ واحد، حتى لو كان قفصًا من ذهب. كان يعرف أن الحياة ليست ضحكًا فقط، وأن هناك لحظاتٍ لا تحتمل المزاح، فبدأ رحلته نحو الآفاق الأعمق، حيث الصمت أبلغ من أي جملة، وحيث النظرة وحدها يمكن أن تروي قصةً كاملة.


المسرح: حين كان الإيقاع السريع لغته


على خشبة المسرح، لم يكن جورج خباز مجرد ممثل، بل كان بركانًا من الكلمات، كان الإيقاع السريع هو توقيعه، وكان صوته يسابق أنفاسه ليحمل الجمهور في عاصفةٍ من المشاعر. في كل عرض، كان يكتب نصًا جديدًا على الهواء، لا يُعيد نفسه، لا يرتكن إلى نجاحٍ سابق، بل يولد من جديد مع كل ستارةٍ تُرفع، كأن كل ليلةٍ هي امتحان، وكل مشهدٍ هو معركةٌ يخوضها بروحه قبل جسده.


كان المسرح ميدانه الأول، هناك تعلم كيف يملأ الفراغات بالصوت، وكيف يحوّل النص إلى إيقاعٍ نابض، وكيف يجبر الجمهور على اللهاث وراء كلماته، يضحكون ثم يبكون، يظنون أنه يسخر، ثم يكتشفون متأخرًا أنه يعري الحقيقة. لكن الزمن كان ينتظره عند منعطفٍ آخر، وكان عليه أن يتعلم أن بعض المشاعر لا تُحكى، بل تُعاش، وأن الصمت أحيانًا أكثر فصاحةً من ألف قصيدة.


السينما: حين أصبح الصمت كلمته الأقوى

عندما جاءت السينما، لم يكن التحدي سهلاً، فالعدسة قاسية، تلتقط كل تفصيلة، لا تمنح فرصةً ثانية، ولا تحتمل التصنع. هنا، أدرك جورج خباز أن عليه أن يغير لغته، أن يتخلى عن الإيقاع المسرحي الصاخب، ويكتشف قوة الصمت.

في السينما، لم يعد بحاجةٍ إلى الكلمات الكثيرة، صار التردد في النظرة جملةً، وصارت الابتسامة الشاحبة فصلاً من رواية، وصار الصمت نفسه صرخةً مدوية. أصبح التمثيل عنده تجربةً داخلية، صار يبحث عن الصدق في التفاصيل الصغيرة، في ارتعاشة الجفن، في رعشة الأصابع، في لحظة التردد قبل اتخاذ القرار. لم يعد يمثل، بل صار يستحضر الشخصيات كأنها أطيافٌ تسكنه، يتركها تعيش من خلاله، فلا تشعر أنها تمثل، بل كأنها وُلدت للحياة مرةً أخرى عبره.



الدراما: حين صار الزمن حبرًا يكتب به أدواره

مع نضج العمر، صار جورج خباز أكثر وعيًا بمرور الزمن، وأكثر فهمًا لقوته. لم يكن يخشى أن تتغير ملامحه، بل احتضن ذلك التغيير، جعله جزءًا من أدواته، جعل التجاعيد شهادات حياة، وجعل الصمت خريطةً للمشاعر. لم يكن بحاجةٍ إلى أن يرفع صوته ليُسمع، ولا أن يبالغ في تعبيره ليُفهم. أدرك أن النظرة قد تحمل ألف حكاية، وأن السكون قد يكون أبلغ من أي حوارٍ مكتوب.

في أحد مشاهده، لم ينطق بكلمة، ومع ذلك، اهتزت قلوب كل من شاهده. لأنه فهم أن التمثيل العظيم لا يحتاج إلى ضجيج، بل يحتاج إلى صدقٍ نادر، إلى لحظةٍ واحدةٍ تصنع الأثر، إلى أداءٍ لا يُنسى حتى بعد أن يُطوى المشهد الأخير.



الذكاء الفني: كيف يصنع من العمر مجده؟

لم يكن جورج خباز مجرد فنانٍ ناجح، بل كان رجلًا يعرف كيف يستخدم الزمن لصالحه. لم يرَ في العمر قيدًا، بل رآه أفقًا جديدًا، لم يقف عند نجاحٍ واحد، بل كان يسعى دائمًا إلى دورٍ أصعب، إلى تحدٍّ أكبر، إلى تجربةٍ لم يخضها من قبل.

كان يعرف متى يصمت ومتى يتكلم، متى يكون خفيف الظل، ومتى يصبح ثقيلًا بوزن المشاعر. لم يكن يبحث عن التصفيق، بل عن التأثير، عن أن يترك أثرًا لا يُمحى، عن أن يكون جزءًا من ذاكرة المشاهد، لا مجرد لحظةٍ عابرةٍ على الشاشة.



الإرث الفني: حين يصبح الإنسان أثرًا لا يُمحى

اليوم، بعد كل هذه السنوات، لا يمكن أن يُذكر جورج خباز كاسمٍ عابرٍ في تاريخ الفن، بل كحالةٍ نادرة، كفنانٍ لم يلهث خلف الأضواء، بل جعل الأضواء تتبعه. لم يكن مجرد ممثل، بل كان حكايةً تُروى، درسًا في كيف يكون الفن صادقًا، وكيف يكون الزمن حليفًا للإبداع بدل أن يكون عدوًا له.

في كل دورٍ قدّمه، لم يكن يسعى إلى النجاح السريع، بل كان يطمح إلى الخلود، إلى أن يظل أثره حيًا في الذاكرة، إلى أن يكون الفن الذي يصنعه صادقًا بما يكفي ليبقى، حتى بعد أن يخفت كل شيءٍ آخر.



شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa