نفوق مئات الأبقار... من يحمي المزارع؟

17/07/2025 07:29AM

كتبت سيدة نعمة في نداء الوطن: 

لم تكن حادثة نفوق الأبقار والأغنام في الشمال اللبناني مجرّد أخبار متداولة في الأوساط الريفية، بل كانت كفيلة بإثارة قلق المربين وإطلاق موجة من المناشدات لوزارة الزراعة.

إذ استفاق هؤلاء على كارثة صحية ضربت قطعانهم، حاصدة عشرات الرؤوس من الماشية في بعض المزارع، وسط صدمة وارتباك، فقد وجدوا أنفسهم أمام هذه الموجة من دون أدوات للمواجهة أو حتى القدرة على التفسير.

لبّت الوزارة النداء سريعًا، فأرسلت منذ فترة فريقًا من دائرة الثروة الحيوانية للكشف الميداني وأخذ العيّنات اللازمة، وهذا التحرّك أتى بتوجيه مباشر من وزير الزراعة نزار هاني، وهدفه الأساسي ـ بحسب الوزارة ـ كان "تشخيص الأسباب بدقة" و "تقديم الدعم الفني والبيطري اللازم"، ضمن جهود حماية الأمن الصحي الحيواني.

لكنّ التفسيرات في الشارع تعدّدت، منهم من لفت إلى أن "الحدود المفتوحة مع سوريا حيث المرض المستشري منذ فترة، هو السبب وراء انتقال مرض الطابق أو الحمى القلاعية إلى القطعان اللبنانية".

ومنهم من ربط ما جرى بـ "تلوّث الهواء إثر الغارات التي تستهدف الجنوب اللبناني".

فيما يرى البعض الآخر أنّ "قلة الوعي، وغياب القدرة المادية على شراء اللقاحات والقيام بالوقاية اللازمة كانت الأسباب المباشرة".

لكن مهما كانت الأسباب، تبقى الحقيقة واحدة:

الواقعة وقعت. الخسائر بالآلاف. والأبقار نَفقت.

هل من تعويض للمزارعين الصغار الذين فقدوا قطعانهم؟

في حديث لـ "نداء الوطن" يقول هاني إنّ "الوزارة تولي أهمية كبيرة لقطاع الثروة الحيوانية، وخصوصًا في ظلّ التحدّيات المتزايدة التي تواجه مربّي الأبقار في مختلف المناطق اللبنانية".

وكشف أن للوزارة كثيرًا من العمل في هذه الفترة في ما يخصّ تربية الحيوان والثروة الحيوانية، مضيفًا: "هذا القطاع يُشكّل أساسًا لعملنا، وسنطلق مشروعًا كبيرًا بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، سيمكّننا من دعم صغار المزارعين، أي أولئك الذين يملكون مزارع تضمّ ثلاثين رأس بقر أو أقل".

وتابع هاني: "الوزارة وقّعت الأسبوع الماضي مشروعًا جديدًا مع البنك الدولي، في خطوة تهدف إلى دعم هذا القطاع على المدى المتوسط".

إدارة الثروة الحيوانية: لا صندوق للتعويض، لكنّ التحصين لم يتوقف

من جهته، يوضح مدير الثروة الحيوانية في وزارة الزراعة الدكتور إلياس إبراهيم أنّ الأرقام المتداولة حول نفوق الأبقار مبالغ فيها، مشيرًا إلى أنّ "الحالات المسجّلة لا تُعدّ وباءً شاملًا، بل هي حالات موضعية وبعضها لم تُحسم أسبابه بعد".

ويضيف: "قد تكون هناك حالات ناتجة عن سوء استخدام الأدوية البيطرية، أو عدم استشارة الطبيب البيطري، ولا أريد تحميل المزارعين كامل المسؤولية، ولكن في كثير من الأحيان، الخطأ منهم".

ويسلّط الضوء على واقع مؤسف، إذ يقول: "لا يوجد في لبنان أي صندوق تعويض للمزارعين، لا في القطاع الحيواني ولا الزراعي، التعويض يتمّ فقط عبر الهيئة العليا للإغاثة، في حال تمّ تصنيف الحالة كـ "وباء"، وغالبًا ما تدخل الأمور في مسار من الأخذ والردّ".

ويؤكّد مدير الثروة الحيوانية أنّ الوزارة عملت خلال السنوات الماضية على تحصين كلّ قطعان الأبقار والأغنام في لبنان، رغم الأزمات، بفضل دعم خارجي من مانحين.

وعن قلّة وجود لقاح "الطابق"، يقول: "الطلب على اللقاح ازداد، والمنطقة المجاورة للبنان مشتعلة بالمرض، ما أدّى إلى تراجع الكميات المتوفرة في السوق".

التهريب والحدود.... خطر دائم على القطعان

وحول موضوع انتقال الأمراض عبر الحدود، شدّد الدكتور إبراهيم على أن الوزارة تراقب حركة المواشي المستوردة بدقّة: "لاحظنا في الفترة الأخيرة حركة نشطة جدًا، خصوصًا في عكار، بين لبنان وسوريا. وقد تم استيراد عدد كبير من الأبقار، وتخوّفنا من دخول أمراض خطيرة، لكن لحسن الحظ، لم يحصل ذلك".

ويكشف إبراهيم عن عدد من المشاريع المستقبلية، قائلًا: "نحن بصدد إطلاق مشروع جديد بدعم من البنك الدولي، وبالتعاون مع الفاو، لدعم صغار المربين، يشمل تقديم معدّات صغيرة، وأدوية، ولقاحات، وحتى قروض صغيرة".

كما يشير إلى أنّ "موازنة الدولة بدأت تستعيد انتظامها، آملًا العودة إلى ما نسبته 60 % من مستوى الدعم الذي كان معمولًا به قبل خمس سنوات أي قبل الأزمة".

ويشدّد خاتمًا على أنه "رغم كل التحديات، لم نتوقّف عن حملات التوعية، والإرشاد اليوم هو من أولويات الوزارة الجديدة".

نقابة مربي الأبقار: البلاد قد تواجه أزمة وبائية واسعة 

وبينما تتحدث الوزارة عن خطط تحصين ودعم مرتقب، يقدّم رئيس نقابة مربّي الأبقار ومنتجي الحليب في لبنان، المهندس خير الجراح، قراءة تفصيلية للواقع من موقعه كنقابي ومتابع مباشر لأوضاع المزارعين.

ويقول: "ما يحصل ليس حالة وبائية عامة على صعيد الوطن، بل حالات متفرقة يمكن أن تُعزى إلى عدة أسباب، في مقدّمها سوء الاستخدام للأدوية البيطرية وغياب التحصين المنتظم".

ويتابع الجراح: "كثير من المزارعين لا يعودون إلى الأطباء البيطريين، بل يعالجون القطعان بأنفسهم، وغالبًا بطرق غير علمية، ما يؤدي أحيانًا إلى تفاقم المرض بدل معالجته"، مضيفاً: "نحن ننبّه دائمًا إلى أن الوقاية خير من أي تدخل لاحق، وكلفة التحصين لا تتعدى الدولارين للبقرة الواحدة كل أربعة أشهر، وهي كفيلة بتجنّب كوارث وخسائر كبيرة".

ويشدّد على أن المزارع لا يجب أن يتّكل فقط على عدم وجود إصابات قريبة منه، بل أن يلتزم بتطعيم الأبقار بشكل دوري، ويستشير البيطريين عند أي خلل صحي يظهر على القطيع، لأن بعض العترات تظهر فجأة ومن دون إنذار.

أما على صعيد المخاطر الحدودية، فيشير الجراح إلى أن "الحدود المفتوحة مع سوريا تشكّل تحدّيًا حقيقيًا، خصوصًا في ظل الحديث عن فيروس جديد انتشر في العراق، وفي حال عبور أبقار من هناك إلى سوريا، ومن ثم دخولها إلى لبنان، فإن البلاد قد تواجه أزمة وبائية واسعة". لكنه يطمئن بأن "الأمور حتى الساعة تحت السيطرة، والحمد لله لم تُسجّل إصابات من هذا النوع بعد".

ويختم برسالة مباشرة إلى وزارة الزراعة: "يجب دعم صغار المربين، أولئك الذين لا يملكون الوسائل لتأمين التحصين بشكل دائم، خصوصًا أن سلامة الثروة الحيوانية مسؤولية وطنية، المطلوب خطة واضحة للدعم، تشمل توفير اللقاحات، وتسهيل وصول الإرشادات البيطرية".

بعد كل هذا الكلام لا تزال الأسباب الفعلية غامضة بالنسبة لكثيرين.

فهل نحن أمام وباء صامت؟ أم أن المسألة تعود إلى أخطاء بشرية أو إهمال في الرعاية؟

المزارعون يفاقمون الأزمة

للإجابة، كان لا بدّ من التوجّه إلى الطب البيطري الذي يبقى، في نهاية المطاف، المصدر العلمي القادر على تفكيك المشهد.

يشرح الدكتور فؤاد فرحات أن "أمراض الباستوريلا، وهي أمراض رئوية تصيب الأبقار خصوصًا في فصل الصيف، قد تعتبر من أبرز المسببات لهذا النفوق"، موضحاً أنّ "الباستوريلا موجودة بشكل طبيعي في جسم البقرة، لكن الظروف مثل سوء التهوية في المزارع والحرارة الشديدة تهيّئ بيئة مناسبة لتفشي المرض وحدوث معدلات نفوق مرتفعة".

ويشار إلى أن "مرض الباستوريلا ينتشر من خلال المخاط الذي تفرزه الأبقار، وينتقل بسهولة بين القطيع، كما ينتقل من خلال المزارع طبعاً عن غير قصد".

ويضيف: "وبسبب ارتفاع درجات الحرارة، تظهر حشرة "البرغوث" وإذا لم يُستخدم العلاج المضاد للحشرات بشكل صحيح، فقد يؤدي إلى تسمم الأبقار."

ويحذر الدكتور فرحات من أن "المزارعين الذين يعالجون قطعانهم بشكل عشوائي وبدون استشارة بيطرية يفاقمون الأزمة، وقد حدث مؤخرًا في عكار أن أحدهم تسبب في تسميم أبقاره من دون قصد باستخدام دواء خاطئ ضد البراغيث".

في ظل كل ما يقال ويحصل، تأتي قصص المزارعين لتعكس الجانب الإنساني المؤلم من هذه الأزمة.

ويقول أحدهم، بصوت يحمل مرارة الخسارة: "راحت المزرعة… زعلان كتير، من 45 رأسًا إلى 13 فقط، و 5 من بينها مريضة".

يتابع: "أشعر بأنني على وشك الانهيار، كان إنتاجي اليومي من الحليب يصل إلى 450 لترًا، والآن لا يتجاوز الـ 100 لتر، كنت أجني يوميًا حوالي 400 دولار من مبيعات الحليب، وكل ذلك تبخر".

وعمّا إذا كان قد قام بتلقيح القطيع قبل هذه الكارثة، يشدّد: "ذهبت كي أشتري طعم مرض الطابق لكني لم أجده، فلم أحصّن القطيع في هذه الفترة".

مزارع آخر يقول: "كان لدي 70 رأسًا من الأبقار، والآن لم يبقَ لدي سوى 30 فقط، لا أعلم ما السبب وراء هذا الموت المفاجئ، فقد فقدت الكثير خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أسبوعين. الوضع صعب للغاية".

تبرز هذه الأصوات عمق الأزمة التي يعاني منها المربّون، الذين وجدوا أنفسهم أمام خسائر فادحة تهدّد معيشتهم، ما يجعل من مسألة التعويض والدعم ضرورة ملحة للحفاظ على الثروة الحيوانية وعلى مستقبل هؤلاء الذين لا مدخول لديهم سوى ما يجنونه من مزارعهم ومواشيهم.

في ضوء ما سبق، يتّضح أن أزمة نفوق الأبقار ليست مجرّد حادثة عابرة، بل هي عارض خطير يكشف هشاشة في الواقع الزراعي والبيطري بالبلد، خصوصًا في المناطق الريفية، حيث يشكّل صغار المزارعين العمود الفقري للثروة الحيوانية. وبين شهادات المزارعين وبين جهود الدولة التي لا تزال بمهبّ ريح المبادرات الخارجية والتعويل على الهبات، يبرز سؤال جوهري لا يمكن تجاهله: من يحمي المزارع في بلد لا يملك صندوق تعويض، ولا يقدّم له الحدّ الأدنى من الحماية والاستعداد في وجه الكوارث البيئية والصحية؟

صحيح أنّ وزارة الزراعة أعلنت عن مشاريع مستقبلية مع الفاو والبنك الدولي، لكن المزارع الذي خسر قطيعه اليوم لا يجب أن ينتظر سنوات كي تثمر هذه الخطط. فما الحلول العاجلة؟ ومن يتحمّل مسؤولية التقصير، سواء في غياب الإرشاد أو في السماح بمرور الأبقار المصابة عبر الحدود مع سوريا؟

إن غياب سياسة وطنية واضحة لحماية صغار المربين، وعدم وجود آليات لتعويض الخسائر، يطرحان إشكالية جوهرية حول جدوى الاستمرار في الزراعة وتربية المواشي في ظل غياب الحدّ الأدنى من الحماية والدعم. فهل ستتحرّك الدولة قبل فوات الأوان؟ أم سنواصل رثاء ما تبقّى من القطعان... والمزارعين معًا؟


المصدر : نداء الوطن

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa