الدولة التي نسيت أن تكون دولة

20/07/2025 04:15PM

كتب رالف يونس:

في المنطقِ السياسيِّ العام، لا تُعرَّف الدولةُ فقط بوصفِها كيانًا يمتلك السيادةَ والسلطةَ، بل بوصفِها الترجمةَ المؤسسيةَ لإرادةِ العيشِ المشترك، والراعيَ الأولَ لمفهومِ الكرامةِ الإنسانية. فليستِ الدولةُ، في جوهرِها، منصّةً لإدارةِ الملفاتِ الإقليميةِ أو واجهةً لتحالفاتٍ خارجية، بل هي، قبل كلِّ شيء، تعبيرٌ عن التزامٍ تاريخيٍّ تجاهَ مواطنيها: أن تضمنَ لهم ما يجعل الحياةَ ممكنةً، لا مؤقّتةً، ولا مرهونةً.

وهنا تبرزُ المفارقةُ اللبنانية. دولةٌ تُنفق وقتَها وجهدَها في حساباتِ الخارج، وتُهمل، عن سابقِ تصوّرٍ وإصرار، ما يُفترض أنَّه لُبُّ وجودِها: الداخل. تختزلُ السياسةَ في بياناتِ التنديد، وتصريحاتِ الاصطفاف، وخطاباتِ التبعيةِ والاستزلام، بينما تنهارُ أسسُ البقاءِ الكريمِ أمام أعينِ الجميع، بلا أدنى ارتباكٍ أو شعورٍ بالذنب.

هل تعي الدولةُ أنَّ لقبَ "جمهورية" لا يُنتزعُ بالشعارات، بل يُبنى بالأفعال؟ أنَّ اسمَ الدولةِ لا يُطلقُ مجازًا، بل يُستحقُّ حين توفّرُ لمواطنيها الطبابةَ المجانية، والتعليمَ المتطوّر، والضماناتِ الاجتماعية، والعدالةَ النزيهة، وفُرَصَ العملِ، والسكنَ اللائق، والبُنى التحتيةَ المستقرّة، والأمنَ الشامل؟ أم أنَّ بقاءَ التسميةِ صار ترفًا لغويًّا، نُدافع عنه كما يُدافع شاعرٌ عن استعارةٍ في نصِّه؟

إنَّ الانشغالَ المستمرّ بالملفاتِ الخارجية، وإنْ كان ضرورةً في بعضِ الظروف، لا يمكن أن يكون بديلًا عن بناءِ الداخل. فكلُّ دولةٍ تفقدُ توازنَها حين تُدارُ بعينٍ واحدةٍ، تراقب ما خلفَ الحدود، وتغفلُ ما يحدث تحت أقدامِها. الخطرُ الحقيقيُّ لا يأتي دومًا من العدوِّ الخارجي، بل من تآكُلِ الداخل، من يأسِ المواطنِ، من فقدانِ الثقةِ، من انسحابِ الناسِ من المعنى العامِّ للدولة، وتحوُّلِهم إلى أفرادٍ معزولين في جغرافيا منهَكة.

ولعلّ أخطرَ ما تُواجهه الدولُ حين تتخلّى عن وظائفِها الأساسية، هو تحوُّلُها من مصدرِ أملٍ إلى مصدرِ تهديد، من راعٍ للعدالةِ إلى طرفٍ في لعبةِ البقاء، من كيانٍ يُفترضُ به أن يضمَّ الجميعَ، إلى سلطةٍ تعيش فوقَ الجميع. فكيف يمكن لمواطنٍ أن يشعرَ بالانتماءِ إلى دولةٍ لا تعترف بوجودِه إلا يومَ الانتخابات، ولا ترى في شبابِه سوى أرقامٍ في جداولِ السفر أو الملفاتِ الأمنية؟

إنَّ الكارثةَ لا تكمن فقط في ما لم يُنجَز، بل في غيابِ النيّةِ الصادقةِ للإنجاز، في غيابِ التصوّرِ الشاملِ لدورِ الدولة، وفي قناعةِ السلطةِ الضمنيةِ بأنَّ الأولوياتِ تُحدَّد وفقَ الخارجِ لا الداخل، وفقَ المصالحِ السياسيةِ لا الحاجاتِ الإنسانية، وفقَ إرضاءِ الحليفِ لا خدمةِ المواطن.

دولةٌ تُهمِل الداخلَ، تُفرّغ ذاتَها من مبرّرِ وجودِها. وإنْ كانت تحسبُ أنَّها تربحُ في ملاعبِ الإقليم، فهي في الواقعِ تخسرُ معركةَ الشرعيّةِ في عيونِ شعبِها. ولا دولةَ تستمرُّ طويلًا إنْ لم تستمدَّ قوّتَها من الداخلِ أوّلًا: من الناسِ، من الثقةِ، من العدالةِ، من الحياةِ اليوميةِ التي يجب أن تكون ممكنةً، لا مستحيلةً.

لبنان لا يحتاج فقط إلى إصلاح، بل إلى إعادةِ تعريف. لا نريد دولةً ترفعُ شعاراتٍ كبرى في خطاباتِها، بل دولةً تضمنُ الصغائرَ التي تصنع كرامةَ المواطن. نريد دولةً تبدأُ من المواطن، لا تنتهي عنده.


شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa