27/07/2025 03:30PM
كتب رالف يونس:
كيف يُعقَل لأمة تركع لله خمس مرات في اليوم، وتهتف باسمه في كل نازلة، أن تشيح بوجهها عن جرح ينزف على مرأى منها؟ كيف يمكن لأصوات ملأت الدنيا بآيات التحريم والتكفير والتصنيف أن تخفت تمامًا حين يُسحق أطفال تحت الأنقاض، وتُحاصَر أمهات بالجوع والخوف؟ كيف يستقيم أن نتلو آيات الرحمة والعدل، ثم نمرّ مرور الكرام على مجازر تُبثّ مباشرة على شاشات العالم؟
هذا التناقض الفادح لا يمكن أن يُفسَّر إلا بوصفه اختلالًا في الضمير الجمعي، وعطبًا في وجدانٍ يدّعي الإيمان لكنه لا يعيش استحقاقاته. ما نراه ليس فقط تقاعسًا، بل نفاقٌ مُقنَّع بشعارات دينية جوفاء، تتردّد على الألسنة بينما تنهار القيم في القلوب. لقد تحوّلت شعوب عربية بأكملها إلى آلة تكرار للطقوس، بلا أثر، بلا فعل، بلا روح. شعوب تصنّف الناس بين مؤمنين وكافرين، مهتدين وضالين، مرضيّ عنهم ومغضوب عليهم، لكنها حين يُبتلى الضمير بأصعب اختبار، تلوذ بالصمت، أو تتذرّع بالعجز، أو تنشغل بتوافه الحياة.
نحن الذين نملأ مساجدنا، ونزيّن جدران منازلنا بالآيات، ونرفع راية الله في خطاباتنا وساحاتنا، نحن أول من خذل المعنى. أول من ترك غزة وحدها تواجه الذبح، والمجاعة، والحصار، والخذلان. لم يعد يكفي أن نؤمن، بل أن نُثبت أن لهذا الإيمان معنى، وأن الله الذي نرفعه شعارًا لا يزال حيًا في قلوبنا، لا ميتًا في تفاصيل عاداتنا.
قال نيتشه: "مات الله"، لا لأنه أنكر وجوده، بل لأنه رأى أن القيم التي كان الدين يزرعها في النفس قد زالت، وأن الله، كحقيقة روحية وأخلاقية، لم يعد يحرّك الإنسان أو يردعه. وكان يقصد بذلك الغرب الذي تخلّى عن الدين، فوجد نفسه يتخبّط في خواء روحي، يستبدل المطلق بالنسبي، والرحمة بالمصلحة، والحق بالصوت الأعلى.
ولكن، أي تفسير نملكه نحن؟ نحن الذين لا نزال نرفع الأذان، ونحج، ونصوم، ونُحسن التلاوة... ما عذرنا؟ إن كان نيتشه قال إن الله مات في الغرب، فإننا نحن من قتلنا حضوره في الشرق. لم نكفر به، لكننا حيّدناه. أبقيناه على اللسان، وجرّدناه من السلطة في سلوكنا ومواقفنا. لم يمت الله عندنا، بل ماتت مرآته فينا. ماتت العدالة، والرحمة، والغضب الشريف، والغيرة على الضعيف، وهي الأسماء التي كان يُفترَض أن نراها فيه.
أستطيع أن أغفر للغرب جفاءه، فهم منذ زمن دفنوا الإله، واستبدلوه بعالم فاسد، واستهلاكي، واستعراضي. هم مشغولون بفضائح المشاهير، ومصير نجمات تلفزيون الواقع، أكثر من انشغالهم بمصير أمة تُباد. لا غرابة أن يتعامى الغرب عن غزة، فهو منذ زمن لم يعد يكترث للإنسان.
لكن نحن؟ كيف يُغفر لنا؟ كيف نُبرّر لشعب يُباد أمامنا، أننا عاجزون عن منحه حتى موقفًا؟ كيف نقنع أمًا تشاهد أبناءها يحتضرون من الجوع، أن جيرانها العرب، على مرمى البصر، لم يستطيعوا إدخال رغيف؟ كيف نقول لأبٍ يلمّ أشلاء أسرته، إن الصلاة التي نؤديها كل يوم لم تُلهمنا شهقة غضب واحدة من أجله؟
من يظن أنه قادر على تحييد نفسه عن هذه الكارثة، واهم. ومن يتخاذل اليوم عن نصرة غزة، عليه أن يعلم أن النيران ستصل إليه عاجلًا أم آجلًا. فمشروع الإبادة لا يتوقف عند حدود، ولا يعرف فرقًا بين فلسطيني وسواه، حين يتعلق الأمر بمنطقة عربية يُراد لها التفكك والتيه.
ليست غزة مجرد عنوان سياسي أو جغرافي. إنها اختبار روحي وإنساني لكل من لا يزال ينطق باسم الله، أو يدّعي الإيمان به. فإن صَمَتْنا الآن، فقد اخترنا أن نكون ضالين حقيقيين، لا عن طريق الله فقط، بل عن جوهر إنسانيتنا.
ربما لم يمت الله، لكن كثيرًا من الناس مات فيهم الله.
شارك هذا الخبر
روجيه فغالي يتوّج بطلاً لرالي البترون
عبد المسيح يطالب بكشف التحويلات ووقف التلاعب بأموال المودعين
حادث تصادم في الضنية يُسفر عن أربعة جرحى
ترامب يتوعد أوروبا: الرسوم الجمركية لن تقل عن 15%!
مجزرة في كنيسة بالكونغو!
بو عاصي: حزب الله لن يسلم سلاحه
فواكه "خادعة" على الفطور...والبطيخ في صدارة الأسوأ!
القوى الأمنية: توقيف لصَّين خطيرين في خلدة
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa