19/12/2025 10:44AM
ريتا بولس شهوان
--
تخضع العملية التشريعية في لبنان لتحول جذري في طبيعتها ومصدرها، حيث لم تعد انعكاسًا للإرادة الوطنية أو أولويات أصحاب المصلحة، بل أصبحت مرآة دقيقة لشروط الجهات الممولة، الدولية والمحلية على حد سواء. إن هذا الواقع، الذي يتجاوز مجرد التأثير الخارجي، قد أسس لمفهوم "السيادة المشروطة"، حيث يصبح الحق السيادي في التشريع مرهونًا بالقدرة على تأمين التمويل، وتُفرغ القوانين من مضمونها الوطني لتصبح مجرد استجابات تقنية لمتطلبات مالية. لقد خلقت هذه الديناميكية آليات معقدة تتحكم بالأجندة البرلمانية والحكومية، مستتبةً وصاية مالية شبه كاملة يمكن فهمها من خلال إطار نظري ثلاثي الأبعاد يجمع بين الضغط الخارجي الذي يفرض الأجندة، والمصالح النخبوية الداخلية التي تقوم بفلترتها، والسلوك السياسي الانتهازي الذي يشوه تنفيذها، مما يؤثر بشكل مباشر على حياة المواطن عبر إنتاج سياسات تعبر عن مصالح الطبقة السياسية الحاكمة لا احتياجات المجتمع.
تتمحور الإشكالية الرئيسية لهذه الدراسة حول تحوّل مفهوم السيادة الوطنية في لبنان ما بعد الانهيار المالي 2019. ففي ظل الاعتماد الكلي على التمويل الخارجي، لم تعد العملية التشريعية تعبيراً عن إرادة سيادية مستقلة، بل أصبحت نتاج تفاعل معقد بين ضغوط خارجية ومصالح داخلية وسلوكيات سياسية انتهازية. وعليه، يمكن صياغة الإشكالية في السؤال المحوري التالي:
إلى أي مدى، وكيف، أعادت الأزمة المالية والاقتصادية تشكيل السلطة التشريعية في لبنان، محوّلةً إياها من أداة لترجمة الإرادة الوطنية إلى ساحة لإنتاج "سيادة مشروطة" تحكمها معادلة ثلاثية الأبعاد: شروط الممول الخارجي، ومصالح النخبة الحاكمة، وحسابات الفاعل السياسي؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلة التالية:
1. سؤال الآلية الخارجية: ما هي الآليات التي تستخدمها المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي) لفرض أجندتها على رأس أولويات الأجندة التشريعية اللبنانية؟
2. سؤال الفلترة الداخلية: كيف تعمل النخبة السياسية-المالية كـ"حارس بوابة" (Gatekeeper) لتصفية هذه الأجندة، بحيث تسمح بمرور ما لا يمس مصالحها وتعرقل أو تفرّغ من المضمون ما يهددها؟
3. سؤال السلوك السياسي: كيف يساهم السلوك السياسي الانتهازي، القائم على تعظيم المكاسب قصيرة الأمد، في خلق فجوة بين التشريعات المقرّة (لإرضاء الممولين) والتنفيذ الفعلي على الأرض؟
4. سؤال الأثر والنتيجة: ما هي طبيعة التشريعات التي تنتجها هذه الديناميكية، ومن هي الفئات المستفيدة والمتضررة من واقع "السيادة المشروطة"؟
الفرضيات
للإجابة على هذه الإشكالية، تنطلق الدراسة من الفرضيات التالية:
• الفرضية الرئيسية:
إن السيادة التشريعية في لبنان ما بعد الانهيار لم تعد مفهوماً مطلقاً، بل أصبحت "سيادة مشروطة"؛ حيث تخضع صياغة القوانين وأولوياتها بشكل مباشر لمنطق التمويل الدولي، مما يحوّل البرلمان من سلطة تأسيسية إلى هيئة تنفيذية تقنية لشروط الدائنين.
• الفرضيات الفرعية:
1. فرضية المحرك المالي: كلما زادت حاجة الدولة للتمويل الخارجي، ارتبطت الأجندة التشريعية بشكل وثيق بـ "الإجراءات المسبقة" (Prior Actions) التي يفرضها الممولون، مما يمنح الأولوية للقوانين ذات الطبيعة المالية والتقنية (إصلاح المصارف، سرية الحسابات، الكهرباء) على حساب القوانين ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية الملحة (الحماية الاجتماعية، رفع الأجور).
2. فرضية الفلتر النخبوي: تقوم النخبة السياسية-المالية الحاكمة بدور "فلتر انتقائي"، حيث تستخدم سلطتها لتمرير التشريعات التي تضمن استمرارية تدفق التمويل الخارجي دون المساس بمصالحها الجوهرية، بينما تعمل على تعطيل أو إفراغ القوانين التي تفرض مساءلة حقيقية أو توزيعاً عادلاً للخسائر (مثل قانوني حل البنوك والكابيتال كونترول).
3. فرضية الانتهازية السياسية: السلوك السياسي للبرلمانيين والحكومة لا تحكمه المصلحة الوطنية طويلة الأمد، بل تحكمه نظرية "الاختيار العام" (Public Choice Theory) الساعية لتحقيق مكاسب سياسية وشعبوية قصيرة المدى. وهذا يفسر التباطؤ في تنفيذ الإصلاحات المؤلمة والإسراع في إقرار قوانين ذات عائد سياسي فوري، حتى لو تعارضت مع منطق الإصلاح الشامل.
تعتمد الدراسة منهجاً بحثياً متكاملاً يجمع بين الإطار النظري، التحليل المدعوم بالبيانات الثانوية، ودراسات الحالة لتفسير ظاهرة "السيادة المشروطة" في لبنان.
المحرك المالي: كيف يفرض التمويل الدولي الأجندة التشريعية؟
إن المحرك الأساسي للأجندة التشريعية هو التمويل الخارجي. فالتجربة اللبنانية تثبت بشكل قاطع أن قوانين حساسة مثل تعديل سرية المصارف أو إصلاح قطاع الكهرباء لم تكن لتصبح أولوية تشريعية لولا ارتباطها المباشر بشروط التمويل الدولي. لقد وُضعت هذه القوانين في مقدمة جدول الأعمال ليس لأنها نالت إجماعًا وطنيًا، أو لانها قطاعية، بل بسبب الحاجة الماسة للتمويل التي نشأت نتيجة عقود من تفشي الفساد وتراكم الديون الهائلة وانهيار مؤسسات الدولة الاقتصادية (IMF, 2022; World Bank, 2021).
يجسد لبنان بوضوح نظرية التبعية، حيث تفقد الدولة "الهامشية" استقلاليتها في صنع القرار وتصبح أجندتها انعكاسًا لمصالح "المركز" (عالميا) المتمثل في المؤسسات المالية الدولية. وقد امتد هذا التأثير ليشمل قوانين استراتيجية أخرى مثل قانون حماية الودائع وهيكلة المصارف، التي لم تكن خيارًا سياسيًا طوعيًا، بل فرضتها الحاجة للالتزام بشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كمدخل إلزامي لصرف التمويل الدولي، مما جعلها تتقدم على قوانين أخرى قد تكون "أكثر إلحاحًا محليًا أو مجتمعيًا"، كتلك المتعلقة بتحسين الخدمات العامة، ورفع الأجور، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية، والتي تم تأجيلها لأنها لا تخدم مباشرة أجندة الممولين (NOWLEBANON, 2025; Arab News, 2025; Reuters, 2025; BLOMINVEST, 2025; TIMEP, 2025). وقد عملت هذه المؤسسات الدولية بالتعاون مع تحالف محلي من السلطات الحكومية والمصارف الكبرى ونخبة القطاع الخاص لضمان تمرير هذه القوانين تحت شعار "لا تمويل بلا تشريع" (IMF, 2025; World Bank & OECD, 2021).
وقد تعمقت هذه المشروطية وتكرست بشكل واضح بحلول عام 2025، حيث لم تعد القوانين تُناقش من منطلق فائدتها الوطنية، بل من زاوية مدى تلبيتها لشروط الممولين. ارتبطت موافقة صندوق النقد الدولي على أي دعم بتنفيذ "إجراءات أولية" صارمة(Prior Actions) شملت تعديل سرية المصارف وإعادة هيكلة القطاع المصرفي (IMF, 2022; Gebara, 2025). وكما ورد في تقرير للصندوق: "إجراءاتنا التشريعية الحالية تهدف أولاً إلى تلبية شروط برنامج التمويل، لأن أي تلكؤ يعني تعليقًا فوريًا للدعم المالي" (IMF, 2025, ص. 7). وبالمثل، لم تكن قروض البنك الدولي مجرد تحويلات مالية، بل حزم إصلاحية مشروطة، كما في قانون قرض الكهرباء الذي ربط صرف التمويل بإصلاحات محددة، مما يعكس كيف أن "القوانين المرتبطة ببرامج التمويل الدولي تنتقل تلقائيًا إلى أعلى جدول الأعمال التشريعي" (World Bank, 2025, ص. 2). هذا النمط الذي بدأ مع مؤتمر "سيدر" (2018) وربطه 11 مليار دولار بـ 73 إجراءً إصلاحيًا (CEDRE Donors, 2018)، استمر وتكثف في تشريعات 2025، مثل قانون الإصلاح الضريبي الشامل الذي فرض "تطبيق ضريبة القيمة المضافة بنسبة 15% على الخدمات المصرفية" كشرط من صندوق النقد، وتعديل قانون الكهرباء (214/2025) الذي ألزم بتخصيص جزء من الأرباح لتسديد قروض البنك الدولي، وصولًا إلى تعديل قانون الشراء العام ليعتمد نظام المناقصات الإلكترونية وفق معايير الاتحاد الأوروبي. إن هذه المشروطية تظهر حتى في أدق تفاصيل النصوص القانونية؛ ففي تعديل السرية المصرفية (قرار 157/2022)، أُضيفت جملة تتماشى مع متطلبات الـ FATF، وفي المادة 4 من قانون هيكلة المصارف (قانون 169/2023)، نصت على إنشاء وحدة تتفق مع خطة الصندوق الإصلاحية، مما يحول التشريع الوطني إلى مجرد تنفيذ تقني لتعليمات خارجيةبحيث تتحول العملية الى استجابة للازمة بل تسيير الإنتاج ووضع خطط تنموية .
الفلتر النخبوي: دور الطبقة الحاكمة في تشويه وتصفية الأجندة
إن الأجندة التي يفرضها الخارج لا يتم تمريرها كما هي، بل تخضع لـ"فلترة" دقيقة من قبل النخبة السياسية-المالية المحلية التي تعمل كـ "حارس بوابة" (Gatekeeper) . هذه النخبة، التي تطبق نظرية النخبة بشكل مثالي، تسمح بمرور الإصلاحات التي لا تهدد مصالحها الجوهرية، بينما تستخدم سلطتها لعرقلة أو تفريغ أي تشريع يمس بامتيازاتها. يتجلى هذا في آلية الانتقائية في التشريع؛ فبينما مُرر تعديل قانون سرية المصارف تحت ضغط دولي، تم تعطيل قانوني حل البنوك والرقابة على رؤوس الأموال لسنوات لأنهما يفرضان توزيعًا عادلًا للخسائر ويمسان بمصالح كبار المودعين والمساهمين المصرفيين. وحتى عندما يتم إقرار قانون ما، تضمن النخبة إفراغه من مضمونه عند التنفيذ، كما حدث مع قانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الذي أُقر لإرضاء المانحين ثم تُرك بميزانية هزيلة، ليصبح هيكلًا بلا أنياب.
إثبات واقع "السيادة المشروطة" في لبنان
تحول مفهوم السيادة التشريعية في لبنان إلى واقع "السيادة المشروطة". هذا الواقع الجديد ليس مجرد توصيف نظري، بل هو نتاج تفاعل ديناميكي ثلاثي الأبعاد بين محرك مالي خارجي، وفلتر نخبوي داخلي، وسلوك سياسي انتهازي، وهو ما تحلله وتثبته البيانات التالية بالتفصيل:
1. هيمنة المحرك المالي الخارجي على الأجندة التشريعية:
إن الادعاء بأن الأجندة التشريعية لم تعد وطنية بل أصبحت خاضعة لمنطق التمويل الدولي تثبته معطيات محددة. أولاً، حقيقة أن جدول أعمال البرلمان أصبح محكوماً بسبعة "إجراءات مسبقة" وضعها صندوق النقد الدولي كشرط أساسي للحصول على تمويل بقيمة 3 مليارات دولار (صندوق النقد الدولي، 2024). ثانياً، إن الأولوية المُطلقة أُعطيت لقوانين ذات طابع تقني بحت يطلبها الصندوق، وهو ما يظهره إقرار قانون تعديل السرية المصرفية في أبريل 2025 بعد ثلاث محاولات فاشلة (الجمهورية اللبنانية، 2025أ)، وإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف في يوليو 2025 (الجمهورية اللبنانية، 2025ب). وفي المقابل، فإن تهميش الأجندة الاجتماعية مُثبت بوضوح من خلال توصيف "الدعم الدولي الضعيف جداً" الذي تواجهه قوانين الحماية الاجتماعية. والدليل القاطع على ذلك هو أن "الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية" (فبراير 2024) لم ترَ النور إلا بعد أن حصلت على تمويل أوروبي-هولندي (المفوضية الأوروبية ووزارة الخارجية الهولندية، 2024)، مما يثبت أن حتى التشريع الاجتماعي أصبح رهينة "راعٍ دولي".
2. عمل النخبة كـ "فلتر" انتقائي لحماية مصالحها:
إن فرضية قيام النخبة بدور "حارس البوابة" لتصفية الأجندة الدولية ليست مجرد استنتاج، بل هي حقيقة تؤكدها آليات ملموسة. تثبت البيانات وجود سبع آليات رئيسية للعرقلة تستخدمها النخبة، أبرزها "التأخير في اللجان البرلمانية" و"تفريغ المضمون عبر التعديلات"، وهي آليات وُصفت بأنها "عالية الفعالية جداً" (اليونسكو–المعهد اللبناني للدراسات التشريعية، 2023). والنموذج الأمثل الذي يثبت هذه المقاومة هو قانون "الكابيتال كونترول" الذي لا يزال معطلاً منذ عام 2022 رغم كونه مطلباً دولياً أساسياً (منظمة الشفافية الدولية، 2022). أما الدافع وراء هذه العرقلة فتوضحه بيانات "أوراق باندورا 2021" التي كشفت أن اللبنانيين سجلوا شركات خارجية أكثر من أي جنسية أخرى في العالم، مع ملاحظة قفزة هائلة في التسجيلات حول عام 2019 (المعهد الدولي للصحافة الاستقصائية، 2021).
3. دور السلوك الانتهازي في إفراغ الإصلاحات من مضمونها:
إن الادعاء بأن السلوك السياسي تحكمه المكاسب قصيرة الأمد تؤكده معطيات محددة تظهر أنماطاً سلوكية واضحة. يثبت ذلك تحديد ستة أنماط أساسية للسلوك الانتهازي، من ضمنها قوانين ذات "منفعة سياسية عالية جداً" مثل "تمديد الدعم الشعبوي" و"زيادة رواتب القطاع العام" (مركز بيروت للأبحاث السياسية، 2024). هذه القرارات الشعبوية، التي تتعارض مع منطق الإصلاح، تُفسر الفجوة بين التشريع والتنفيذ. وتؤكد الدراسات الأكاديمية حول الانتخابات اللبنانية وجود "دورات سياسية انتهازية" واضحة، وهو ما تدعمه بيانات مثل كون انتخابات 2009 واحدة من "أغلى الانتخابات في التاريخ" (الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية، 2010)، واستمرار الاتهامات الواسعة بشراء الأصوات وتقديم الخدمات في انتخابات 2022 رغم الأزمة (هيومن رايتس ووتش، 2022).
4. النتيجة: توزيع غير عادل للتكاليف والمنافع:
إن الأثر النهائي لهذه الديناميكية ليس عشوائياً، بل ينتج ضحايا ومستفيدين يمكن تحديدهم بدقة من خلال البيانات. المتضررون هم صغار المودعين الذين يشكلون 84% من الحسابات المصرفية وتُحتجز ودائعهم البالغة 20 مليار دولار (مصرف لبنان، 2025)، والعمال في القطاع غير المنتظم، والطبقة الوسطى التي تدهورت أوضاعها بنسبة 90% (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2024). في المقابل، المستفيدون هم النخبة السياسية والمصرفية التي استفادت من غياب الكابيتال كونترول لتهريب أصولها، وكبار المودعين، والوسطاء الماليون الذين ازدهروا في اقتصاد الدولار النقدي. هذه الأرقام تثبت أن منظومة "السيادة المشروطة" تعمل بشكل ممنهج لتحميل الخسائر للفئات الأكثر ضعفاً وحماية مصالح النخبة.
السيادة المعلقة: تشريح آلية تجميد الإصلاح في البرلمان اللبناني
تُقدم المعطيات المتعلقة بالمشاريع المجمدة الثلاثة – شبكة الأمان الاجتماعي (ESSN)، وصندوق دعم المشاريع الصغيرة(B5 Fund)، وبرنامج التماسك الاجتماعي (RSCP) – تشريحاً حياً وبرهاناً لا يقبل الجدال للإشكالية المطروحة، وتؤكد صحة الفرضيات عبر كشفها عن آلية عمل منظومية تحكم "السيادة المشروطة" في لبنان. هذا الواقع يمثل انحرافاً جذرياً عن الدور الأساسي للمؤسسة التشريعية، الذي يُعرّف دولياً بأنه يتمثل في "سن التشريعات واعتماد الميزانيات وضمان المساءلة عن التنفيذ الفعال لالتزاماتنا" (Inter-Parliamentary Union & UNDP, 2016, p. 5). فالعملية في لبنان لا تتم بشكل عشوائي، بل تتبع مساراً مدروساً يبدأ بالاستجابة الشكلية للمحفزات الخارجية وينتهي بالتعطيل الممنهج. ففي جوهرها، لم تعد العملية التشريعية تعبيراً عن إرادة وطنية، بل أصبحت استجابة شرطية ومؤقتة، وهذا يتضح أولاً عبر فرضية المحرك المالي؛ فالمشاريع الثلاثة لم تُدرج على جدول الأعمال لأنها تمثل أولوية وطنية، بل لأنها كانت شرطاً للحصول على تمويل خارجي جاهز. هنا تبدأ الخطوة الأولى من الآلية: القبول الشكلي، حيث ترحب الحكومة والطبقة السياسية بالمشاريع لإظهار حسن النية وتجنب مسؤولية حرمان البلد من الأموال، فتُصاغ مسودات القوانين وتُرسل إلى البرلمان في احتفالية إعلامية.
وما إن يدخل المشروع هذه البوابة، حتى تبدأ الخطوة الثانية وهي التعطيل داخل المتاهة التشريعية، حيث يبرز دور فرضية الفلتر النخبوي بشكل حاسم. تعمل النخبة السياسية-المالية كـ"حارس بوابة" ذي وظيفة مزدوجة، وهذه الظاهرة ليست مجرد فشل في الحوكمة، بل هي مثال واضح على ظاهرة "الاستحواذ النخبوي على المساعدات الخارجية" (Elite Capture of Foreign Aid)، وهي عملية يتم فيها "استحواذ نخبها الاقتصادية والسياسية على جزء من هذه المساعدات وتحويلها لمصلحتها الخاصة إلى حسابات في الخارج" (Andersen et al., 2020, as cited in Diani, 2020, p. 236). فمن ناحية، تسمح النخبة بدخول المشاريع للنقاش العام لاستجلاب العملة الصعبة وتقديم وعود شعبوية، ومن ناحية أخرى، تستخدم نفوذها داخل اللجان النيابية "لقتل" هذه المشاريع بهدوء عبر تكتيكات محددة: المماطلة وتأجيل الجلسات، الإغراق في تفاصيل تقنية ثانوية، وربط إقرارها بشروط مستحيلة كإصلاحات مصرفية شاملة كما حصل مع "صندوق B5". هذا النهج يقوم على الادعاء بتنفيذ الإصلاحات، ولكن "بطريقة تحافظ على مصالحها، ومصالح أعضائها وشبكاتها، في صميم أي ترتيب اقتصادي أو سياسي جديد" (Gharib et al., 2023, p. 12). وهذا بالضبط ما يفسر كيف بقيت مسودة تعديل قرض شبكة الأمان الاجتماعي حبيسة "لجنة المال والموازنة" لأشهر دون الوصول إلى الهيئة العامة؛ لقد تم استخدام الإجراءات البرلمانية كأداة لإفراغ الإصلاح من مضمونه وضمان عدم تحوله إلى حق مستدام يتطلب مساءلة أو التزاماً من خزينة الدولة.
تكتمل هذه الآلية بالخطوة الثالثة وهي استغلال عامل الوقت، حيث تدرك النخبة أن التمويل الخارجي محدد بإطار زمني، فتصبح المماطلة استراتيجية متعمدة لإنهاك المشروع حتى ينتهي أجله. وعندما يُعلن الممول عن انتهاء فترة التمويل، تأتي الخطوة الرابعة والأخيرة: التبرير وإلقاء اللوم، حيث تحصل الطبقة السياسية على مخرج آمن لتبرير فشلها بالقول إن "التمويل قد توقف"، محوّلة نفسها من "المعرقل" إلى "الضحية". ويكتمل هذا المشهد بـفرضية الانتهازية السياسية، حيث يكون السلوك البرلماني محكوماً بحسابات الربح والخسارة السياسية قصيرة المدى. وبهذا، يتخلى البرلمان عن مسؤوليته الأساسية المتمثلة في "محاسبة الحكومات على الأهداف التي التزمت بها، والتأكد من إقرار القوانين الداعمة واعتماد الميزانيات" (Inter-Parliamentary Union & UNDP, 2016, p. 10). النتيجة النهائية هي نظام لا يفشل في تحقيق التنمية فحسب، بل يُرخّص بشكل فعال "باستدامة الفساد في البلدان الأكثر اعتمادًا على المساعدات الدولية عوض محاربته" (Diani, 2020, p. 238). وهكذا، فإن المساعدات الخارجية، كما أثبت التاريخ اللبناني، "فشلت باستمرار في أن تُستثمر في نوعية حياة أفضل... وبدلاً من ذلك، تم استغلالها لصالح الطبقة السياسية المالية" (Gharib et al., 2023, p. 18). يظل المستفيد الوحيد هو النظام السياسي الذي يتقن فن إدارة الأزمة وتأجيل الحلول، مؤكداً بذلك أن السيادة في لبنان لم تعد مفهوماً يُمارس، بل ورقة تُستخدم في مسرحية سياسية يُسدل ستائرها بمجرد انتهاء التمويل.
دراسة حالة في الشلل التشريعي: مصير قانون العمل المرن
لعل المثال الأوضح على آلية الفلترة هذه هو مصير قانون العمل المرن. على الرغم من أن هذا القانون صُمم لدعم المرأةوالشباب والاقتصاد الرقمي، نتيجة الحصول على منح محدودة تحفز بعض الجمعيات لصياغة القانون والحشد، إلا أنه وُضع في "الأرشيف التشريعي" لأنه فشل في عبور بوابتي السلطة: بوابة التمويل وبوابة النخبة. أولاً، لم يكن هذا القانون شرطًا في أي برنامج تمويل دولي مسقط من الخارج كما هو، ولا يفيد النخبة، وبالتالي افتقر للضغط الخارجي الذي يجبر البرلمان على إقراره. ثانيًا، تعارض مع مصالح القوى التقليدية والنقابات التي رأت فيه تقليصًا لنفوذها، مما دفع "الفلتر النخبوي" إلى استبعاده من خلال تقييد التشاور به مع أصحاب المصلحة الفعليين. وبهذا، يكشف تجميد هذا القانون أن أي تشريع لا يخدم أجندة الممولين أو يتعارض مع مصالح النخبة مصيره الإهمال، بغض النظر عن أهميته المجتمعية.
السلوك السياسي الانتهازي: استراتيجية الكسب قصير الأمد
تكتمل هذه الصورة المعقدة بالسلوك الانتهازي للفاعلين السياسيين، الذين تفسر نظرية الاختيار العام تصرفاتهم. فهم يسعون لتعظيم مكاسبهم الانتخابية قصيرة الأمد على حساب المصلحة الوطنية. وهذا يفسر الفجوة الهائلة بين الالتزامات الدولية (كتلك التي قُطعت في مؤتمرات باريس وسيدر بنسب تنفيذ متدنية لم تتجاوز 14% و23%) والتنفيذ الفعلي. فالسياسي يجد من مصلحته تقديم الوعود لكسب الشرعية، لكنه يؤخر تنفيذ الشروط المؤلمة شعبيًا. وفي المقابل، يتم تمرير القوانين ذات العائد السياسي الفوري بسهولة، مثل "قانون الإعفاءات الجمركية لمستوردات الغاز" قبل الانتخابات البلدية، أو "تعديل قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص" بهدف تسييل عقود مقابل صفقات سياسية، مما يحول التشريع إلى أداة للمقايضة بدلًا من كونه أداة للتنمية.
من يحدد أجندة الدولة؟ معادلة القوى الثلاثية ومسار استعادة السيادة
إذًا، من يحدد أجندة الدولة بعد الأزمات الاقتصادية؟ الإجابة ليست بسيطة أو أحادية. فأجندة الدولة في لبنان ما بعد الأزمة هي أجندة هجينة، تُملى خطوطها العريضة وشروطها الكبرى من الخارج عبر الممولين الدوليين، ولكن يتم تفصيلها وتشويهها وتصفيتها من الداخل عبر النخبة السياسية-المالية الحاكمة، وتُنفذ بوتيرة انتهازية تخدم المصالح السياسية قصيرة الأمد. إنها ليست إرادة شعبية ولا سيادة وطنية، بل هي نتاج توازن قوى غير متكافئ بين دائن خارجي يفرض شروطه للبقاء المالي، ونخبة داخلية تتفاوض على هذه الشروط لضمان بقائها السياسي والمالي. وفي خضم هذا الصراع، يبقى المواطن هو الطرف الغائب والمتضرر الأكبر، الذي يدفع ثمن هذه "السيادة" المفقودة. إن استعادة السيادة التشريعية الفعلية تتطلب مسارًا إصلاحيًا جذريًا يكسر هذه الحلقة المفرغة من التبعية المالية والفلترة النخبوية، وذلك عبر بناء مصدر أجندة تشريعية داخلي ينبع من المجتمع، وتفكيك آليات المساءلة المعطلة، وتقليل الاعتماد على القروض المشروطة. فما لم يتم إخراج لبنان من معادلة "الدائن مقابل المواطن"، سيظل البرلمان يشرّع باسم السيادة، بينما تحكمه في الواقع شروط التمويل ومصالح النخبة.
بورصة التشريع في لبنان: كيف تُصنع الأجندة بين ضغط الخارج ومصالح الداخل
توصف صناعة التشريعات في لبنان بأنها محصلة صراع نفوذ مرير بين القوى السياسية والمالية المحلية من جهة، وضغوط الجهات الدولية من جهة أخرى، ما يجعل عملية وضع القوانين وتفعيلها تدور في فلك مصالح معقدة تتخطى الأولويات الوطنية. وفي قلب هذه الديناميكية، تبرز اللجان النيابية بوصفها "مقبرة القوانين"، حيث تبقى مئات النصوص عالقة لسنوات بعيداً عن التداول العام، ضحيةً لتوازنات قوى لا تخضع لأي منطق مؤسسي.
أولاً: ضغط الخارج كأداة لفرض الأجندة التشريعية
منذ تفاقم الأزمة المالية في 2019، تحوّل صندوق النقد الدولي إلى اللاعب الأساسي في فرض أجندة تشريعية محددة عبر ربط أي مساعدات بخطوات إصلاحية (International Monetary Fund, 2019). وقد ظهر ذلك جلياً في قوانين حيوية لم تكن لتصل إلى طاولة النقاش لولا هذا الضغط، وأبرزها:
• قانون "الكابيتال كونترول": لم يتحرك النقاش الجدي حوله إلا بعد أن وضعه الصندوق كشرط مسبق، ليُفرض على جدول أعمال الجلسات التشريعية في 2023 (Ministry of Finance, 2023).
• قانون "إعادة هيكلة المصارف": ارتبط مصيره أيضاً بالضغط الدولي، وأصبح على رأس أولويات الحكومة والبرلمان خلال 2024–2025 نتيجة مطالب واضحة من صندوق النقد (International Monetary Fund, 2024).
لكن وضع القانون على الأجندة لا يضمن تطبيقاً فعالاً. فبمجرد دخوله أروقة اللجان، تبدأ عملية تفريغ مضمونه عبر تعديلات تخدم تحالف السياسة والمال. وكما بيّن تقرير “لافوليب” في أيار 2025، أُقرّ "الكابيتال كونترول" بآليات تسمح بالالتفاف عليه وتحمي المصالح المصرفية على حساب عموم المودعين، مما يحول الاستجابة للضغط الخارجي إلى مجرد خطوة شكلية (LaVoleeb Monitoring Report, 2025).
ثانياً: مصالح الداخل بين التعطيل والتفريغ الممنهج
في المقابل، تواجه التشريعات الإصلاحية الجوهرية التي تمس بنية النظام الطائفي–الزبائني “فيتو” غير معلن من قوى الداخل.
• قانون مكافحة الفساد: رغم إقراره عام 2020، جاءت ميزانية الهيئة الوطنية هزيلة جداً (National Anti-Corruption Commission Annual Report, 2021)، وقُيدت صلاحياتها التنفيذية بآليات ترخيص معقدة من جهات أخرى كمصرف لبنان وقاضي الأمور المستعجلة (Law No. 189/2020, Articles 5–7)، مما حدّ من قدرتها على ممارسة أي دور رقابي فاعل.
• قانون اللامركزية الإدارية: على الرغم من المطالبات التاريخية به منذ توصيات لجنة فؤاد بطرس (2006)، بقي المشروع يُفرّغ من جوهره المالي والضريبي داخل اللجان، بهدف تحويله إلى هيكل إداري بلا سلطة حقيقية(Boutros Committee Recommendations, 2006).
هذا التعطيل الممنهج تؤكده الأرقام، فوفق تقييم نشاط المجلس النيابي (2022–2024)، بلغ متوسط دراسة مشاريع القوانين في اللجان 188 يوماً، في خرق فاضح للنظام الداخلي الذي يفرض مهلة شهر واحد (Parliamentary Activity Evaluation, 2024). كما انخفضت إنتاجية اللجان من 65.2% إلى 39.5%، مما يكشف عن تراجع كبير في الإرادة التشريعية (ibid.).
ثالثاً: القوانين اليتيمة وموت المشاريع بلا راعٍ
إلى جانب القوانين المحمية أو المعطلة، هناك فئة ثالثة تموت بصمت في الأدراج لأنها تفتقر إلى “راعٍ سياسي” أو اقتصادي قوي. قانون العمل المرن هو المثال الأبرز، فبسبب غياب أي ضغط خارجي يفرضه أو مصلحة لنخب نافذة تدعمه، بقي مهملاً رغم الحاجة المجتمعية له (Labor Code Reform Proposal, 2021). وينطبق الأمر ذاته على قانون حماية كبار السن(Elderly Protection Act, 2019) وقانون الحق في الوصول إلى المعلومات (Access to Information Law, 2017)، اللذين أُقرا شكلياً لكنهما بقيا شبه معطلين بسبب غياب الدعم السياسي والموارد اللازمة لتنفيذهما.
مقبرة القوانين: أرقام تكشف حجم التعطيل
ليست هذه مجرد انطباعات، بل حقيقة تؤكدها الأرقام الرسمية. ففي عام 2025، كان هناك أكثر من 943 بنداً تشريعياً على جدول أعمال البرلمان، بينها مئات المقترحات التي تراوح مكانها في اللجان المختصة (Parliamentary Legislative Agenda, 2025). وتُعدّ اللجان المشتركة المسرح الرئيسي لهذا التعطيل، حيث بلغ عدد الاقتراحات العالقة لديها وحدها 36 مشروعاً بين 2018 و2022، على رأسها مشروع الكابيتال كونترول نفسه (Joint Committees’ Report, 2023).
خاتمة:
تُظهر التجربة اللبنانية أن الأجندة التشريعية لا تشكلها الحاجات العامة، بل توازنات القوى بين ضغوط الخارج ومصالح الداخل. إن تباطؤ اللجان وضعف إنجازها يؤكدان أن وجود "راعٍ سياسي" قوي أو شرط دولي ملح هما العاملان الوحيدان لمرور أي نص قانوني، بينما تظل القوانين ذات المنفعة العامة مجرد بنود هامشية على جدول أعمال لا يعترف إلا بلغة القوة.
شارك هذا الخبر
سعد يتلقى دعوة لحضور افتتاح مركز جديد لجمعية Barakah Charity Lebanon في صيدا
بلدية دورس تحتفل بعيد الميلاد برعاية المحافظ خضر وتوزّع 700 هدية للأطفال
النائب العام الاستئنافي في الشمال يفتح تحقيقًا بشأن فيديو مسيء لشجرة الميلاد
روبيو: واشنطن الوحيدة القادرة على قيادة مفاوضات فعالة بين موسكو وكييف والقرار النهائي بيد الطرفين
وكالة "فرانس برس" تعلن خطة لخفض تكاليف عمل صحافييها في الخارج بحلول 2028
مذكرة تفاهم بين مكتب وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا وجامعة LAU لتعزيز الجمهورية الرقمية
وزير الدفاع ميشال منسى يستقبل السفير الموريتاني ورئيس ديوان المحاسبة
رئيس الحكومة نواف سلام يعلن مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع: نحو استعادة حقوق 85 في المئة من المودعين
آخر الأخبار
أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني
إشتراك
Contact us on
[email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa