من قلب عين الرمانة: شهادات حية في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية

13/04/2025 08:47AM

كتبت جويل رياشي في "الأنباء الكويتية": 

في مثل هذا اليوم قبل خمسين عاما، دوى الرصاص الأول في عين الرمانة، ليشعل شرارة حرب أهلية لبنانية امتدت خمسة عشر عاما، وتركت ندوبا لاتزال محفورة في وجدان اللبنانيين حتى اليوم. كل شيء بدأ من هنا، من شارع صغير في الضاحية الشرقية لبيروت، حيث أطلق الرصاص على «بوسطة» تقل عناصر ومناصرين فلسطينيين، في حادثة أصبحت رمزا لبداية الحرب.

لكن خلف العنوان السياسي والعسكري، تقبع حكايات الناس، حكايات البيوت التي تحولت إلى ملاجئ، والأطفال الذين كبروا على صوت القذائف، والنساء اللواتي خبأن أولادهن تحت الدرج، والشباب الذين لم يعودوا. خمسون عاما مرت، ولم تمح من الذاكرة الجماعية مشاهد قلق الليالي، وتحول الجيران إلى أعداء، والماضي إلى عبء يتوارثه الأبناء.

في هذه الذكرى، نعود إلى عين الرمانة، ليس لنعيد سرد ما حصل عسكريا، بل لننصت إلى الشهادات الإنسانية من قلب الحي: من الذين عاشوا بداية الحرب كأطفال أو شباب، ومن الذين قرروا البقاء رغم الخطر، ومن الذين يرون اليوم في الماضي جرحا مفتوحا لم يلتئم.

البعض منهم يتذكر أحداث «ذلك الأحد، عندما حضر الشيخ بيار الجميل (رئيس حزب الكتائب اللبنانية) للمشاركة في قداس بكنيسة سيدة الخلاص، وما تلا ذلك من إطلاق رصاص وسقوط كتائبي يدعى جوزف أبوعاصي، ثم ردة الفعل بعدها بإطلاق النار على بوسطة تقل مؤيدين للقضية الفلسطينية كانوا في طريق العودة إلى مخيم تل الزعتر».

تتفاوت الحكايات وتتقاطع، والبعض يقول «لا يزال طنين الرصاص في أذني، ربما رصاص الحرب كلها، وليس فقط ما حصل في ذاك الأحد الشهير من 13 أبريل 1975»، 
صاحب بقالة من بلدة بتغرين في المتن الشمالي غادر الحي بعدما أحرق مناصرو «الكتائب» محله لانتمائه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. إلا انه يواظب على تفقد جيرانه بين فترة وأخرى، وقد تحدث من محل فتحه في ساحة بلدته بتغرين.

جان بجك، مواليد 1970، لا يتذكر شيئا من ذلك النهار بطبيعة الحال. يقع منزل والديه مقابل بناية الروضة قرب سيدة الخلاص. في ذاكرته فقط صورة رجل فلسطيني يسحل في الشارع، يشير إلى تمثال السيدة العذراء الذي وضع بعد الحرب، وقبله كانت هناك مرآة زجاجية، ويطلق على المكان «سيدة المراية (المرآة)». على امتداد هذا الشارع، تم استهداف البوسطة بطلقات من الرصاص.

اما نزيه داغر، موظف متقاعد من «الميدل إيست»، حيث أمضى حياته مضيفا في الجو، فيتذكر يوم الأحد الشهير قائلا لـ «الأنباء»: «كنت مع زوجتي في الجبل نمضي العطلة في الزعرور بالمتن الشمالي. وهناك التقيت بابن الخنشارة عفيف سماحة الذي يملك محلا للحلويات في عين الرمانة. وبادرني قائلا: عليك العودة إلى الساحل. احترقت المنطقة وسقط القتلى بالعشرات».

ويضيف داغر «عند مدخل عين الرمانة من نقطة التقاطع بعد الشفروليه حيث الإشارة الضوئية المرورية العملاقة الشهيرة، كانت الحركة متوقفة تماما قرب «تمثال الرصاص» (يرمز إلى شهداء حزب الكتائب). شاهدت تجمعات للأهالي في مكان سقوط جوزف أبو عاصي، وفي أعلى الشارع شاهدت تلك البوسطة التي سمعت عنها في نشرات الأخبار، وكانت ثقوب الرصاص واضحة عليها (...) ليلا، اشتعلت وعرفنا ان قذائف صاروخية تطلق من الجهة المقابلة في الشياح، وتمر من فوق رؤوسنا».

ويقول سليم رياشي (مواليد 1975) نقلا عن والدته التي كانت حاملا به يوم اندلاع الحرب الاهلية «يبعد بيتنا امتارا قليلة عن كنيسة سيدة الخلاص. وكانت أمي الحامل بي تلاعب اختي ذات الثلاث سنوات في ذاك اليوم، واذ بها تسمع صوت الرصاص يلعلع في الحي. كانت الشرارة الأولى للحرب. كبرت في الحرب، ولا أزال أتذكر خشية بعض الأقارب من زيارتنا كون بيتنا في عين الرمانة التي أصبحت مرادفا للخطر والحرب».

من جهته، يتذكر جورج الشويري ابن زحلة والساكن في عين الرمانة من أيام العزوبية، ذلك الأحد بالقول «كنت في المنزل على بعد مئات الأمتار من مكان الحادث حيث أقطن في الشارع العريض. لم أسمع الرصاص الصباحي وقت وجود الشيخ بيار الجميل في المنطقة. لكني أتذكر أصوات الرصاص التي أطلقت على البوسطة. كنت في هذه الفترة أستعد للزواج، وقد حصل ذلك في بداية مايو. ومنعني والدي الراحل خليل الشويري من السفر، بسبب الظروف. فقصدت والمرحومة زوجتي نوال فندق بارك أوتيل في شتورة لتمضية شهر العسل. ثم عدنا واستقبلنا المهنئين لاحقا في المنزل في عين الرمانة وفقا للعادات الجارية وقتذاك. وفي مساء الليلة الأخيرة من التهاني في 17 مايو، دوت أصوات القذائف الصاروخية، فغادر أصدقائي الزوار وبينهم النائب السابق الدكتور ناجي غاريوس على عجل. وانتقلنا بعدها إلى منزلنا الصيفي في بتغرين. ولما عدنا في نهاية الصيف، انتقلت إلى منزل آخر في الشارع، بعد اتخاذ مقاتلين من حزب «الوطنيين الأحرار» من بهو المبنى الفسيح مقرا لهم، وقد نصبوا مدافع رشاشة».

حاليا، يقيم الشويري في الشارع نفسه حيث شيد عمارة ضخمة وباعها شققا سكنية ومحلات، قرب مدرسة الحكمة. ولم يغادر المنطقة الا وقت اشتداد ضربات الحربين الإسرائيليتين الكبيرتين في يوليو 2006، وسبتمبر 2024. اما في الحرب الأهلية فقد توجه مع أقارب وجيران إلى قبرص هربا من الحرب.

في عين الرمانة حكايات كثيرة عن الحرب، بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين أبناء الوطن الواحد والطائفة الواحدة. حروب عدة عرفتها المنطقة، آخرها وأشدها الضربات الإسرائيلية على الجهة المقابلة في الضاحية الجنوبية، إحدى ضفتي «الخط الأخضر» الشهير في الحرب الأهلية.

حسن مواليد 1968، يقطن في المنطقة حاليا، لكنه كان يسكن يومذاك في برج حمود، وقد غادر مع ذويه سريعا إلى بنت جبيل، ثم عاد إلى الطيونة في بيروت حيث استقرت العائلة «ما أذكره ان بيتنا احترق في برج حمود من دون ان أعرف كيف ولماذا».

حكايات من الضفتين لا تختلف كثيرا، وبقايا أبنية تحمل آثار الحرب الأهلية.


المصدر : الأنباء الكويتية

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

إشترك بنشرة الـ"سياسة"

أهم الأخبار و الفيديوهات في بريدك الالكتروني

إشتراك

تحميل تطبيق الـ"سياسة"

Playstore button icon Appstore button icon

تواصل إجتماعي

Contact us on [email protected] | +96176111721
Copyright 2023 © - Elsiyasa